يتضح من كل هذا ، وهو بعض الأدلة الثابتة فقط لا كلها ، أن مهمة حفظ القرآن الكريم وتدوينه كانت واحدة من المهمات التي تبناها الرسول صلىاللهعليهوآله بنفسه ، فأشرف عليها مدة حياته كلها ، فكأنه كان يرعى مؤسسة ناشطة مهمتها تدوين القرآن والتحقق المستمر من كل ماتم تدوينه بين الآونة والأخرى ، وهي مؤسسة عظمى تلك التي يرعاها الرسول المكرم بنفسه ، وينتمي إليها رجال من عمالقة الصحابة علماً ومعرفةً وإخلاصاً.
من هنا كانت المهمة اللاحقة ، وهي إعادة تدوين القرآن في مصحف واحد ، وبترتيب واحد ، هو الترتيب الذي عرضه الرسول الأكرم في عرضه الأخير ، مهمة يسيرة للغاية ، لم تتطلب إلّا أياماً معدودة في عهد أبي بكر ، أنجزها طائفة من هؤلاء النفر الذين كتبوا القرآن كله وعرضوه أكثر من مرة على الرسول محمد صلىاللهعليهوآله « وقد كانت اُلوف المصاحف رقيبة على الحفاظ ، وألوف الحفاظ رقباء على المصاحف ، وتكون الألوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدد منها ، نقول الألوف ولكنها مئات الألوف وألوف الألوف ، فلم يتفق لأمر تاريخي من التواتر وبداهة البقاء مثل ما اتفق للقرآن الكريم » (١).
لعل هذه أول وأهم مزية امتاز بها القرآن على ما سواه من الكتب السماوية ، وخاصة التوراة والانجيل ، التي لم تحظ بشيء من هذه العناية لا في الحفظ ، ولا في التدوين ، الأمر الذي جعلها عرضةً لكل ما أصابها مما وقفت على أطراف منه.
يقول موريس بوكاي : إن لتنزيل القرآن تاريخا يختلف تماماً عن تاريخ
_______________________
(١) آلاء الرحمن / البلاغي : ٥١ ـ ٥٢.