ونمعن النظر في هذا الوحي فنجد فيه تميُّزاً عن كلّ ما يحيط بنا وبمعارفنا ، إنّنا ننجذب فيه إلى حقيقة عميقة تخاطب فينا مكنوناتٍ وخفايا لا تسبر غورها إلّا قوّة مطلعة على سرائرنا خارجة عن ذواتنا ومستويات عالمنا ، قوّة مهيمنة تحيط بأسرار الوجود كلّه.
لهذه المميزات فإنّ النبوات ، والوحي أساسها ، كانت في مختلف فترات انطلاقها موضعا للجدل والخلاف ؛ لأنّها مثّلت حدثا غير عادي وارتبطت بما وراء هذا العالم من خلال اتصالها بقوى غير منظورة تنتمي إلى عالم مختلف ، ولم تكن مجرد دعوات تغييرية وتشريع جديد ينسخ ما قبله ، فثبت لدينا أن هؤلاء الأنبياء ( عرفوا ما لم يعرف بقية البشر بطاقة خفية لاتمت إلى المعارف السائدة بسبب وبالتالي لا سبيل إلى العقل البشري لإدراكها ) (١).
مثلما يمثّل الوحي بذاته ظاهرة خفية في ماهيتها ، فإنّ معارفه التي جاء بها مما لم يكن للبشر سابق معرفة به.
والغيب : ذهاب الشيء عن الحس ، ومنه ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) (٢) ، أي عالم بما غاب عن الحواس وبما حضرها (٣). ويضيف الراغب الأصفهاني إلى هذا التعريف بُعدا آخَر ، إذ الغيب عنده ( ما لا يقع تحت الحواس ، ولا تقتضيه بدائة العقول وإنّما يُعلم بخبر الأنبياء ) (٤). فمعارفه غائبة عن الحس
________________
(١) انظر : محمد رسول الله نبي الإنسانية / أحمد حسين : ٦٧.
(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٩.
(٣) انظر : التبيان / الطوسي ٦ : ٢٠١.
(٤) المفردات / الراغب : ٣٦٦.