ولكنّ الافتراض مع هذا مستحيل ، وقد برهن على استحالته بوجوه :
منها : أنّ الافتراض المذكور يجعل الحكم المقطوع منوطا بنفس القطع ، وهذا أمر يستحيل أن يسلّم به القاطع ؛ لأنّه يخالف طبيعة الكاشفيّة في القطع التي تجعل القاطع دائما يرى أنّ مقطوعه ثابت بقطع النظر عن قطعه.
الوجه الأوّل : أنّ أخذ القطع الأعمّ من المصيب والمخطئ قيدا في موضوع شخص الحكم وإن كان لا يبتلي بمحذور الدور المذكور سابقا ، إلا أنّه في نفسه مستحيل ؛ وذلك لأنّ تصويره يعني أنّ ثبوت الحكم موقوف على العلم بالحكم ذهنا ، ممّا يؤدّي إلى أنّ العلم بالحكم ذهنا هو السبب الذي به يوجد الحكم في الواقع ؛ لأنّ العلاقة بين الحكم وموضوعه كالعلاقة بين السبب والمسبّب.
وهذا لا يمكن قبوله ولا المصير إليه ؛ لأنّ دور القطع هو دور المرآتيّة والكاشفيّة ، فهو يري الواقع للقاطع بقطع النظر عمّا إذا كان هذا الواقع حقّا وصوابا أم مجرّد وهم وخيال ، فالقاطع يرى أنّ مقطوعه ثابت في الواقع والقطع هو الذي يريه هذا الواقع ، ممّا يعني أنّ القاطع نفسه ـ سواء كان قطعه مصيبا أم مخطئا ـ لا يرى أنّ قطعه هو الذي يولّد ويكوّن الواقع ، بل يراه كاشفا له عن الواقع فقط.
وحينئذ فما قيل في دفع إشكال الدور وإن كان معقولا في نفسه ، ولكنّه يلزم منه محذور آخر هو في الاستحالة بمكان ؛ لأنّه يؤدّي إلى صيرورة العلم هو الذي يكوّن الواقع ، وهو خلف حقيقة العلم وخلف الواقع أيضا.
ومن هنا فإذا قيل : ( إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فقد وجبت عليك ) ، كان معناه أنّ ثبوت الوجوب واقعا منوط بالعلم ذهنا بالوجوب ، فكان للعلم مدخليّة في ثبوت الواقع وتكوينه وليس مجرّد الإراءة والكشف عنه ، وهذا يستحيل التصديق به حتّى من نفس القاطع ؛ لأنّه لا يرى أنّ قطعه هو الذي كوّن وجوب الصلاة ، بل يراه كشف عن هذا الوجوب فقط ، فضلا عن كون هذا الافتراض في نفسه مخالفا لحقيقة القطع والعلم.
ومنها : أنّه يلزم الدور في مرحلة وصول التكليف ؛ لأنّ العلم بكلّ تكليف يتوقّف على العلم بتحقّق موضوعه ، وموضوعه بحسب الفرض هو العلم به ، فيكون العلم بالتكليف متوقّفا على العلم بالعلم بالتكليف ، والعلم بالعلم نفس