وأمّا لما ذا كان العلم بالحكم هو نفسه العلم بالحكم؟ فهذا اتّضح ممّا ذكرناه آنفا ؛ لأنّ علم النفس بما لديها من علوم وصور ذهنيّة هو علم حضوري أي لا يحتاج إلى علم زائد ولا إلى صور ذهنيّة أخرى ، بل العلم حاضر لدى النفس بنفسه ؛ لأنّه مجرّد كيف نفساني وليس مركّبا من المادّة والصورة ، فالعلم بالعلم ليس إلا نفس العلم.
وبهذا يظهر أنّ محذور الدور والذي روحه وحقيقته توقّف الشيء على نفسه ، بمعنى أنّه إذا فرض في سلسلة المعلولات كان موجودا ، وإذا فرض في سلسلة العلل كان موجودا أيضا ، فهذا المحذور لا يجري فقط في عالم الجعل والتشريع بل يجري أيضا في عالم الوصول والفعليّة.
ولازم ذلك أنّ أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع الحكم نفسه وشخصه مستحيل.
إلا أنّ كلّ هذا إنّما يرد إذا أخذ العلم بالمجعول في موضوعه ، ولا يتّجه إذا أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول ، فبإمكان المولى أن يتوصّل إلى المقصود بتقييد المجعول بالعلم بالجعل.
ويمكن المناقشة في كلا التقريبين للاستحالة بالتقريب التالي :
إنّ المحذور المتقدّم سواء كان بلحاظ عالم الجعل والتشريع أم بلحاظ عالم الوصول والفعليّة ، إنّما يتوجّه فيما إذا كان قيد العلم بالحكم المجعول قيد في موضوع الحكم المجعول ، فإنّه بهذا اللحاظ يشكل بالدور ، فيقال : إذا فرض أنّ العلم بالحكم المجعول قيد في موضوع الحكم المجعول نفسه ، فهذا معناه توقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ العلم بالحكم المجعول لا يكون ثابتا إلا بعد تحقّق موضوعه وهو قد أخذ فيه العلم بالحكم المجعول ، فيلزم أن يكون العلم بالحكم المجعول موقوفا على ثبوت العلم بالحكم المجعول فيدور.
ولكن إذا أخذنا العلم بالجعل قيدا في موضوع الحكم المجعول فهذا لا إشكال فيه ولا دور.
أمّا أنّه لا دور بلحاظ عالم الجعل والتشريع فلأنّ ثبوت الحكم المجعول وإن صار موقوفا على العلم بالحكم الجعلي إلا أنّ هذا التوقّف لا مانع منه ؛ إذ لا محذور في أن يكون الحكم المجعول مسبّبا عن العلم بالحكم الجعلي ، وذلك للتغاير بينهما ، فإنّ