وأمّا تأخّر الأمارة أو الأصل مع كون مؤدّاهما متقدّما على العلم الإجمالي فلا يكفي للانحلال ، فلو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ قامت الأمارة أو الأصل على أنّ هذا الإناء كان نجسا قبل طروّ العلم الإجمالي فهذا لا يكفي ؛ لأنّ الإناء قبل طروّ العلم الإجمالي لم يكن منجّزا على المكلّف ؛ وذلك لعدم وصول المنجّزيّة إليه إذ لا يوجد في تلك الفترة منجّز فعلي ، فكان العلم الإجمالي منجّزا له لتماميّة أركانه فيه.
وهذا واضح بناء على أنّ المنجّزيّة متقوّمة بالوصول سواء كانت للعلم أم للظنّ المعتبر ، فإنّ مجرّد ثبوت التكليف في الواقع لا يكفي لكونه منجّزا على المكلّف حتّى لو لم يعلم به أو لم يقم عليه دليل معتبر شرعا ، بل يكون منجّزا من حين قيام العلم أو الدليل المعتبر ، فالمنجّزيّة فرع الوصول وهي تبدأ من حين ثبوتها وهو لا يكون إلا بوصولها.
وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي كما شرحناه هنا والانحلال الحقيقي كما شرحناه آنفا (١) ، يظهر أنّهما يختلفان في هذه النقطة ، فبينما العبرة في الانحلال الحكمي بعدم تأخّر نفس المنجّز الشرعي عن العلم الإجمالي ، نلاحظ أنّ العبرة في الانحلال الحقيقي كانت بملاحظة جانب المعلوم التفصيلي وعدم تأخّره عن زمان المعلوم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ ميزانه سراية العلم من الجامع إلى الفرد ، وهي لازم قهري لانطباق المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي ومصداقيّة هذا لذاك ، ولا دخل لتاريخ العلمين في ذلك ، فمتى ما اجتمع العلمان ولو بقاء وحصل الانطباق المذكور حصل الانحلال الحقيقي.
الفرق بين الانحلالين : يمكننا بيان الفرق بين الانحلالين الحقيقي والحكمي ضمن الأمور التالية :
أوّلا : أنّ الانحلال الحقيقي فرع سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، بينما الانحلال الحكمي فهو فرع عدم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأفراد.
وثانيا : أنّ الانحلال الحقيقي معناه زوال العلم الإجمالي حقيقة وتبدّله إلى العلم التفصيلي بالفرد والشكّ البدوي في الآخر ، بينما الانحلال الحكمي معناه أنّ العلم الإجمالي لا يزال موجودا ، غاية الأمر أنّ حكمه أي المنجّزيّة قد سقطت.
__________________
(١) تحت عنوان انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي.