والذي ينفعنا في المقام نفي العذاب وإثبات البراءة والتأمين عند عدم وصول التكليف أو عند الشكّ في ذلك ؛ لأنّ كلّ الأحكام قد بيّنت من الشارع وصدرت عنه كما هو مفاد كثير من الآيات ، وهذا المفاد غير ظاهر من الآية كما تقدّم ، إذ قد يصدر الحكم ويكون البيان تامّا عليه ولكنّه لم يصل إلى المكلّف ، ففي هذه الحالة ما هو الحكم والتكليف ووظيفة المكلّف؟
ثمّ إنّ البراءة إذا استفيدت من هذه الآية فهي براءة منوطة بعدم قيام دليل على وجوب الاحتياط ؛ لأنّ هذا الدليل بمثابة الرسول أيضا.
النسبة بين البراءة والاحتياط بلحاظ هذه الآية :
ثمّ إنّه على تقدير الاستدلال بالآية على البراءة فيكون مفادها أنّه مع عدم إرسال الرسول الذي هو مطلق البيان تكون البراءة ثابتة ، وأمّا إذا ثبت البيان فالبراءة تنتفي لانتفاء موضوعها.
وحينئذ نقول : إذا تمّ الاستدلال من الأخبار على وجوب الاحتياط في مورد الشكّ في التكليف فهذا يعني أنّ البيان قد تمّ من الشارع ؛ لأنّ البيان كما تقدّم أعمّ من البيان بلسان الرسول أو الإمام أو الاحتياط ، وهنا المفروض ثبوت الاحتياط فيكون موضوع البراءة منتفيا ، وهذا يعني أنّ الاحتياط مقدّم على البراءة ؛ لأنّه بيان وهي مقيّدة بعدم البيان بحسب الفرض.
والحاصل : أنّنا حتّى لو استفدنا البراءة من الآية إلا أنّها لا تقاوم ولا تعارض أدلّة الاحتياط على تقدير تماميّة هذه الأدلّة كما سيأتي في محلّه.
ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(١) ، إذ دلّ على أنّ عدم الوجدان كاف في إطلاق العنان.
الآية الثالثة : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ ... ) وهذه الآية مفادها تعليم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كيفيّة المحاجّة مع اليهود الذين حرموا بعض المأكولات.
__________________
(١) الأنعام : ١٤٥.