ولكن لمّا كان منوّنا بتنوين التنكير دلّ ذلك على الوحدة فيكون المراد فردا واحدا من الطبيعة شائعا من بين الأفراد ، كما تقدّم بيانه في بحث الإطلاق والتقييد.
ويمكن أن يفرض المثال بعكس ذلك أي بأن تكون الأداة دالّة على البدليّة وقرينة الحكمة دالّة على الشموليّة ؛ كما إذا قيل : ( لا تكرم الفاسق ) ، وقيل : ( أكرم أي عالم ) ، فإنّ دلالة الأوّل على الشموليّة بقرينة الحكمة بينما دلالة الثاني على البدليّة بالأداة ( أي ). فهنا لا إشكال في تقديم ما كانت دلالته بالأداة والوضع ، سواء كان متّصلا أو منفصلا.
أمّا في حالة الاتّصال كما إذا قيل : ( لا تكرم كلّ فاسق وأكرم الفقير ) فلأنّه يعتبر قرينة على التقييد أو التخصيص ، فلا ينعقد العموم أو الإطلاق في الدليل الأوّل من أوّل الأمر ، بل يكون مفاده : ( لا تكرم كلّ فاسق غير فقير ) ، وهذا يعني أنّه لا تعارض أصلا ؛ لأنّه في ( الفقير الفاسق ) لا يكون مشمولا للدليل الأوّل ؛ لأنّه خارج عنه تقييدا أو تخصيصا.
والوجه في ذلك : أنّ انعقاد العموم أو الإطلاق مقيّد بأن لا تكون هناك قرينة على الخلاف ، والحال أنّ القرينة على الخلاف موجودة ومتّصلة به فترفع أصل الظهور.
وأمّا في حالة الانفصال ؛ كما إذا قيل : ( لا تكرم كلّ فاسق ) و ( أكرم فقيرا ) يتقدّم ما كان مدلولا بالوضع والأداة وذلك للأظهريّة والقرينيّة ، فإنّ الدليل الذي فيه الأداة يدلّ بالوضع على العموم والشمول بمعنى أنّ دلالته تامّة على مستوى المدلول التصوّري الوضعي ، بينما دلالة الآخر لمّا كانت على أساس قرينة الحكمة فهي على مستوى المدلول التصديقي الثاني أي الإرادة الجدّيّة ؛ لأنّ قرينة الحكمة مبتنية على أساس ظهور حالي سياقي للمتكلّم ، وهذا الظهور الحالي مدلول جدّي ؛ لأنّه يعيّن المراد للمتكلّم من كلامه ، وهذا معناه أنّ المراد الجدّي في الدليل الأوّل مستفاد من التطابق بين المداليل الثلاثة : التصوّري والاستعمالي والجدّي ، بينما في الدليل الثاني مستفاد من المدلول التصديقي الثاني فقط.
فيكون الأوّل أقوى من الثاني وأظهر ؛ لأنّه نصّ ، بينما الثاني ظاهر والنصّ أقوى من الظاهر أو أقوى ظهورا منه ، أو لأنّ رفع اليد عن الأوّل يستلزم رفع اليد عن الظهورات الثلاثة. بينما رفع اليد عن الثاني لا يستلزم إلا رفع اليد عن الظهور الثالث أي الإرادة