وحينئذ إذا رفعنا اليد عن الإطلاق الشمولي نكون قد رفعنا اليد عن أصل الحكم المجعول شرعا بالكلّيّة والتمام ، بينما لو رفعنا اليد عن الإطلاق البدلي نكون قد رفعنا اليد عن سعة الحكم وأنّه مقيّد بغير هذا الفرد فقط لا عن أصل الحكم ؛ لأنّ الحكم لا يزال ثابتا على الطبيعة ولكن سعتها وحدودها مقيّدة بغير هذا الفرد.
وبمقتضى الفهم العرفي والنكتة العقلائيّة المتقدّمة يتعيّن رفع اليد عن الإطلاق البدلي ؛ لأنّ مخالفة الإطلاق والمصير إلى التقييد أخفّ مئونة من مخالفة رفع اليد من أصل الحكم رأسا ، بحيث يكون التخلّف عن التعهّد ببيان أصل الحكم أقوى وأشدّ من التخلّف والتعهّد عن بيان حدود هذا الحكم سعة وضيقا.
وبذلك يثبت تقديم الشمولي على البدلي لأقوائيّة ظهوره وكون مخالفته أشدّ وأقوى من مخالفة الإطلاق البدلي ، وهذا نحو من الجمع العرفي وهو تامّ.
الثاني : أنّ الأمر في ( أكرم فقيرا ) يختصّ بالحصّة المقدورة عقلا وشرعا بناء على أنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ليس معقولا ، وشمول ( لا تكرم الفاسق ) للفقير الفاسق يجعل إكرامه غير مقدور شرعا ، فيرتفع بذلك موضوع الإطلاق البدلي ويكون الشمولي واردا عليه. ولكن تقدّم في محلّه (١) أنّ تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره معقول.
الوجه الثاني : ما يستفاد أيضا من مباني الميرزا وحاصله : إذا تعارض إطلاقان أحدهما شمولي والآخر بدلي في مادّة الاجتماع فيتقدم الشمولي على البدلي من باب الورود ؛ لأنّه يكون رافعا لموضوعه.
وبيان ذلك : إذا ورد : ( لا تكرم الفاسق ) ، وورد : ( أكرم فقيرا ) ، فهما يجتمعان في الفقير الفاسق ، ويتعارضان فيه بحسب الظاهر ، إلا أنّه لمّا كان كلّ تكليف مشروطا بالقدرة عقلا وشرعا ، ولمّا كان التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور مستحيلا فسوف يكون خطاب ( أكرم فقيرا ) مشروطا بالقدرة العقليّة ، أي القدرة التكوينيّة في مقابل العجز التكويني ؛ لأنّه إذا كان عاجزا تكوينا عن الإتيان بالمتعلّق فيسقط التكليف عن الفعليّة ، ويكون أيضا مشروطا بالقدرة الشرعيّة بمعنى عدم وجود المانع
__________________
(١) في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، ضمن قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، تحت عنوان : الجامع بين المقدور وغيره.