لم يكن كذب كلّ من الدليلين مستلزما لصدق الآخر ، وإلا رجعنا إلى إناطة حجّيّة كلّ منهما بصدق نفسه وهو غير معقول.
ثمّ إنّ هذه الحجّيّة التخييريّة بالشرط الذي ذكرناه وهو ألاّ يكون الآخر صادقا بل يكون كاذبا ، لا تنافي في إثباتها لحجّتين مشروطتين بهذا الشرط كلّ واحدة منهما منصبّة على أحد الخبرين ؛ لأنّ هاتين الحجّتين لن تصلا معا إلى المكلّف ؛ لأنّه إذا وصلت الحجّيّة التخييريّة المتعلّقة بالخبر الأوّل فهذا فرع أن يتحقّق شرطها وهو ألاّ يكون الخبر الآخر صادقا بل كاذب ، فمع كذبه أو عدم صدقه لن تشمله الحجّيّة التخييريّة المتعلّقة به ، بمعنى أنّها ليست واصلة إلى المكلّف ؛ لأنّه كاذب أو غير صادق بحسب الفرض ، والحجّيّة إنّما تنصبّ على الخبر الذي لا يعلم كذبه ، وأمّا معلوم الكذب فهو ليس بحجّة بمعنى أنّه خارج عن دائرة الحجّيّة تخصّصا.
ثمّ إنّه لا محذور في ثبوت هذه الحجّيّة التخييريّة لكلّ واحد من الخبرين إذا لم يكن كذب كلّ منهما مستلزما لصدق الآخر كالنقيضين ، كما إذا قيل : ( تجب صلاة الجمعة ) ، وقيل : ( لا تجب صلاة الجمعة ) ، فإنّه إذا صدق أحدهما ارتفع الآخر لا محالة ، وإذا كذب أحدهما تعيّن صدق الآخر لا محالة ، ومعه لا معنى لثبوت حجّيّته التخييريّة ؛ لأنّه إمّا معلوم الصدق فهو حجّة لنفسه وإمّا معلوم الكذب فهو خارج عن دائرة الحجّيّة بنفسه.
ومن هنا كانت الحجّيّة التخييريّة ـ بمعنى أن يكون كلّ منهما حجّة بشرط كذب الآخر ـ غير معقولة ؛ لأنّه إذا كذب الآخر تعيّن صدق نقيضه ، فيكون مرجع الحجّيّة التخييريّة حينئذ إلى أنّ الخبر حجّة إذا كان صادقا في نفسه وهذا لغو واضح وتحصيل للحاصل ؛ لأنّه إذا علم صدقه أو كانت حجّيّته مشروطة بصدقه فلا معنى لها.
نعم ، إذا كان التنافي بينهما بنحو التضادّ كما إذا قيل : ( تجب صلاة الجمعة ) ، وقيل : ( تحرم صلاة الجمعة ) ، فهنا كذب أحدهما لا يستلزم صدق الآخر ؛ لأنّه إذا علم بأنّها غير واجبة فلا يتعيّن كونها محرّمة ، بل قد تكون مستحبّة أو غير ذلك.
وبهذا يظهر أنّ جعل الحجّيّة التخييريّة بمعنى أنّ كلّ واحد من الخبرين حجّة بشرط ألاّ يعلم بصدق الآخر معقولة في نفسها ، ولا يلزم منها التنافي في ثبوت الحجّتين ؛ لأنّهما لن يصلا معا فلا يلزم اجتماع الضدّين.