فإن نصب القرينة لتحديد مراده النهائي فإن كانت في دليل متّصل فتقدّم أنّه لا يوجد تعارض أصلا ؛ لأنّه لن ينعقد للكلام الأوّل ظهور مستقلّ عن القرينة ، بل ينعقد الظهور من أوّل الأمر على طبق القرينة ، ممّا يعني أنّ القرينة تعتبر صارفة لظهور ذي القرينة رأسا ، وتكون حجّيّة الظهور ابتداء موضوعها الظهور الذي انعقد على طبق القرينة ، كما في قولنا : ( أكرم العلماء والنحوي ليس بعالم ).
وأمّا إن كانت القرينة منفصلة بأن جاء بكلامين مع فاصل زماني بينهما فقال : ( أكرم العلماء ) ، ثمّ قال : ( النحوي ليس بعالم ) أو ( المتّقي عالم ) ، فهنا ينعقد للكلام الأوّل ظهور وينعقد للكلام الثاني ظهور أيضا ، ويقع التعارض بين الظهورين ، ولكن لمّا كان المتكلّم له الحقّ بأن يحدّد مراده النهائي وفق القرينة سواء كانت متّصلة أم منفصلة ـ وهذا الحقّ ثابت له على أساس أنّ العرف يرى ذلك ـ فتكون القرينة المنفصلة في الكلام الثاني رافعة لموضوع الحجّيّة عنه.
بمعنى أنّ حجّيّة الظهور في الكلام الأوّل سوف تنهدم وترتفع لوجود المعارض الأقوى ، وهو القرينة الشخصيّة التي أعدّها المتكلّم بنفسه وكان من خلال الكلام الثاني ناظرا إلى الكلام الأوّل ومبيّنا لمراده الجدّي النهائي منه.
والحاصل : أنّ حجّيّة الظهور مقيّدة بأن لا ينصب القرينة على الخلاف ، فإذا نصب القرينة على الخلاف كانت رافعة لحجّيّة الظهور فيما إذا كانت منفصلة ، وكانت هادمة لأصل الظهور فضلا عن حجّيّته إذا كانت متّصلة.
وبذلك نعرف أنّ ملاك الحكومة هو النظر الشخصي للمتكلّم بحيث يكون قد أعدّ الكلام الثاني ليكون قرينة على تفسير مراده النهائي ، ولذلك يتقدّم الدليل الحاكم وفقا لتقدّم القرينة على ذي القرينة.
ثمّ إنّ النظر الذي هو ملاك التقديم يثبت بأحد الوجوه التالية :
الأوّل : أن يكون مسوقا مساق التفسير بأن يقول : أعني بذلك لكلام كذا ، ونحو ذلك.
الثاني : أن يكون مسوقا مساق نفي موضوع الحكم في الدليل الآخر ، وحيث إنّه غير منتف حقيقة فيكون هذا النفي ظاهرا في ادّعاء نفي الموضوع وناظرا إلى نفي الحكم حقيقة.