ولا اغتسال لشدة تستره وعموق نظره وتحفظه في أمره ، ولم يضحك من شئ قط مخافة الاثم ، ولم يغضب قط ، ولم يمازح إنسانا قط ، ولم يفرح لشئ إن أتاه من أمر الدنيا ، (١) ولا حزن منها على شئ قط ، وقد نكح من النساء وولد له الاولاد الكثيرة وقدم أكثرهم إفراطا(٢) فما بكى على موت أحد منهم ، ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما ، ولم يمض عنهما حتى تحاجزا ، ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره وعمن أخذه ، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء ، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به ، (٣) ويرحم الملوك والسلاطين لغرتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك ، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ، ويجاهد به هواه ، ويحترز به من الشيطان ، وكان يداوي قلبه بالتفكر ، ويداري نفسه بالعبر ، وكان لا يظعن إلا فيما يعنيه ، فبذلك اوتي الحكمة ، ومنح العصمة ، وإن الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون(٤) بالقائلة فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم فقالوا : يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الارض ، تحكم بين الناس؟ فقال لقمان : إن أمرني ربي بذلك فالسمع والطاعة ، لانه إن فعل بي ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني ، وإن هو خيرني قبلت العافية ، فقالت الملائكة : يا لقمان لم؟ قال : لان الحكم بين الناس بأشد المنازل من الدين ، وأكثر فتنا وبلاء ما يخذل ولا يعان ، ويغشاه الظلم من كل مكان ، وصاحبه منه بين أمرين : إن أصاب فيه الحق فبالحري أن يسلم ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وضعيفا كان أهون عليه في المعاد من أن يكون فيه حكما سريا شريفا. ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما ، تزول هذه ولا تدرك تلك. قال : فتعجبت الملائكة من حكمته ، واستحسن الرحمن منطقه ، فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم ، وغطاه بالحكمة غطاء ، فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه ، وخرج على الناس
_________________
(١) في المصدر وفى نسخة : ولم يفرح بشئ أتاه من أمر الدنيا.
(٢) من أفرط فلان ولدا أى مات له ولد صغير قبل أن يبلغ.
(٣) في المصدر : بما ابتلوا به.
(٤) أى حين نام الناس ، والقائلة : منتصف النهار.