وأما البراءة ، فقد ذكرنا في بحث الأُصول (١) أنّ في جريانها في باب المستحبات تفصيلاً ، وملخّصه : الفرق بين المستحبات النفسية وبين خصوصياتها من الجزئية أو الشرطية أو المانعية ، فتجري البراءة في الثاني دون الأول ، فإن الشك إن كان في استحباب عمل في حدّ نفسه كصلاة يوم الغدير مثلاً لا معنى لرفعه بحديث الرفع ، إذ المرفوع بهذا الحديث ليس هو الحكم الواقعي ، ضرورة اشتراكه بين العالمين والجاهلين ، بل الرفع ظاهري ليس إلاّ ، ومرجعه في الحقيقة إلى رفع إيجاب الاحتياط ، بمعنى أن الشارع إرفاقاً على الأُمة ومنّة عليهم لم يوجب التحفظ على الواقع في مرحلة الظاهر ، فَجَعَلهم في سعةٍ مما لا يعلمون ، هذا في الواجبات ، وعلى ضوء ذلك يكون المرفوع في المستحبات بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع هو استحباب الاحتياط دون وجوبه ، إذ المفروض أن أصل الحكم استحبابي ، فكيف يكون الاحتياط فيه وجوبياً ، ولا شك في ثبوت الاستحباب وعدم ارتفاعه ، وأن الاحتياط حسن عقلاً وشرعاً على كل حال ، فلا يمكن شمول حديث الرفع للمستحبات المستلزم لرفع حسن الاحتياط ونفى استحبابه.
وأما إذا كان الشك في جزئية شيء للمستحب أو شرطيته أو مانعيته بعد الفراغ عن أصل الاستحباب ، فلا مانع حينئذ من الرجوع إلى أصالة البراءة لنفي المشكوك فيه ، إذ لا ريب أن القيود المعتبرة في المركب من الجزئية أو الشرطية أو المانعية واجبة بالوجوب الشرطي ، ولا بد من مراعاتها وإن كان أصل العمل مستحباً ، ولا منافاة بين الأمرين كما لا يخفى ، فصلاة الليل مثلاً وإن كانت مستحبة في نفسها ويجوز تركها من رأسها لكنه على تقدير الإتيان بها يجب إيقاعها مع الطهارة وإلى القبلة ومع الركوع والسجود وغير ذلك من سائر ما يعتبر في الصلاة ، ولا يجوز إتيانها على خلاف ذلك فإنه تشريع محرّم ، ولازم ذلك وجوب الاحتياط في كل ما يحتمل دخله في المركب وعدم جواز الإتيان
__________________
(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٧٠.