وعلى تعبير بعض الأعاظم لنفس البعث والاغراء ( فإنّها تعابير مختلفة والمقصود واحد ) فإنّه تارةً يطلب الإنسان شيئاً بنفسه مباشرة فيتحرّك نحو الماء مثلاً لرفع العطش بنفسه ، واخرى يطلبه بالتسبيب ، والثاني على قسمين : تارةً يحرّك الإنسان الشخص المأمور نحو المأمور به بحركة تكوينيّة فيبعثه نحو العمل بعثاً خارجياً ويدفعه بقوّة يده مثلاً ، واخرى يحرّكه ويبعثه نحو العمل بإبراز إرادته وطلبه النفساني بلفظ خاصّ ، ومن الألفاظ التي يستعملها الإنسان في القسم الثاني صيغة الأمر فإنّها لفظ ينشأ بها الطلب ، ويتوسّل به إلى مطلوبه.
ثمّ إنّ دواعي هذا البعث والإنشاء مختلفة : فتارةً يكون الداعي فيه الإيجاد في الخارج جدّاً ، فيكون الطلب طلباً جدّياً ، واخرى لا يكون بداعي الجدّ بل بداعي الهزل أو التحقير أو التعجيز أو التهديد أو التمنّي أو الترجّي ، ولكنّه لا يوجب الاختلاف في المستعمل فيه بل إنّه في جميع هذه الموارد واحد ، وهو البعث والطلب ، والتفاوت إنّما هو في الداعي فحسب.
فقولك : أقم الصّلاة ، لا يختلف عن قولك « اعمل ما شئت »! في أنّ المستعمل في كليهما هو الطلب الإنشائي ، والفرق بينهما إنّما هو في أنّ الداعي لقولك الأوّل إنّما هو الجدّ وإيجاد العمل في الخارج حقيقة ، وفي الثاني التهديد وإيجاد الخوف الرادع العمل ، وهذا ممّا يشهد عليه الوجدان ويعضده التبادر ، وحينئذ يكون الاستعمال في جميعها حقيقيّاً ولا مجاز في البين أصلاً.
لا ينبغي الإشكال في أنّه إذا اجاءت صيغة الأمر مطلقة وبدون القرينة فانّه يفهم منها الوجوب كما عليه سيرة الفقهاء في الفقه في مقام العمل والاستنباط فإنّهم يعدّون صيغة الأمر حجّة على الوجوب إذا استعملت في الكلام مجرّدة عن القرينة ، وعليه بناء العقلاء عموماً في أوامر الموالي إلى من تحت حكمهم ، إنّما الكلام والإشكال في منشأ هذا الظهور وهذه الدلالة ، وفيه أربع احتمالات :
الاحتمال الأوّل : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية ، فإنّه أسندها إلى التبادر وقال : لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة.
ولكن اشكاله واضح فإنّه يستلزم المجاز عند استعمال الصيغة في الندب ، مع أنّ الوجدان يحكم بخلافه ، فإنّا لا نرى في استعمالها في الندب عناية ولا رعاية علاقة من علاقات المجاز