وكعلم الاصول فإنّه يدور مدار المباحث الاعتباريّة والقوانين التشريعيّة (١).
__________________
(١) توضيح ذلك : إنّ لنا نوعين من الإدراك : إدراك حقيقي وإدراك اعتباري ، والإدراك الحقيقي هو ما يكون المدرك فيه موجوداً في عالم الخارج مع قطع النظر عن الذهن المدرك له كإدراك السماء والأرض وزيد وعمرو وغيرها من الامور الموجودة في عالم الأعيان.
والإدراك الاعتباري ما يكون مدركه مخلوقاً لأذهاننا ومصنوعاً لها مثل الملكيّة والزوجيّة ، فانّ وجود « زيد » مثلاً في قضيّة « الدار لزيد » وجود واقعي في عالم الخارج وهكذا وجود « الدار » ، وأمّا النسبة الموجودة بينهما وهي نسبة الملكيّة أمر ذهني اعتباري مصنوع لذهن من يعتبرها ، وهكذا في قضيّة « هند زوجة زيد » فإنّ « زيداً » و « هنداً » كليهما أمران واقعيّان موجودان في الخارج ، وأمّا رابطة الزوجيّة الموجودة بينهما أمر ذهني قانوني فحسب ، وكذلك في جميع الأوامر والنواهي ، أي كلّ « افعل » و « لا تفعل » ففي مثال « لا تشرب الخمر » ـ للخمر وجود حقيقي في الخارج ، وأمّا حرمة الشرب فهي أمر اعتباري موجود في عالم الذهن ، وهكذا في مثل « اشرب الدواء » وأمثال ذلك.
وبالجملة إنّ الامور الاعتباريّة امور فرضيّة يعتبرها الإنسان ويفرضها لرفع حاجات حياته ، ثمّ يرتّب عليها آثاراً مختلفة في حياته الاجتماعيّة.
ويظهر من ذلك كلّه امور :
الأوّل : أنّ الامور التكوينيّة امور ثابتة في الخارج لا تتغيّر بالاعتبارات الذهنيّة ، ولو كان فيها تغيير وتكامل فهو تكامل جوهري داخلي ، وأمّا الامور الاعتباريّة فهي امور متغيّرة تتغيّر بتغيّر الاعتبار والجعل ، كما أنّ الامور التكوينيّة امور مطلقة ، فالشمس مثلاً مطلق لا إنّها تكون شمساً بالنسبة إلى زيد ولا تكون شمساً بالنسبة إلى عمرو ، وأمّا الامور الاعتباريّة فهي امور نسبية ، فالدار المعيّنة مثلاً ملك لزيد ولا تكون ملكاً لعمرو ، والفعل الفلاني مثلاً واجب على زيد وحرام على عمرو.
الثاني : أنّ الامور التكوينيّة تحكم عليها الاستدلالات المنطقية والفلسفية كقاعدة العلّة والمعلول ، واستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، واستحالة الجمع بين الضدّين وتقديم المعلول على العلّة ، بخلاف الامور الاعتباريّة فإنّها خارجة عن نطاق القواعد المنطقية والفلسفية ، ولذلك يمكن اعتبار نقيضين أو ضدّين أي فرضهما ، فيعتبر مثلاً أنّ هذا ملك لزيد ثمّ يعتبر ثانياً إنّه ليس ملكاً لزيد.
نعم إنّه لغو يستحيل صدوره من الحكيم من هذه الجهة ، أي من باب عدم ترتّب الأثر المطلوب من هذا الجعل والاعتبار لا من باب الاستحالة العقليّة الخارجيّة ، فإنّ المقصود من الجعل في الامور الاعتباريّة إنّما هو ترتّب أثر عقلائي ورفع حاجة من الحياة كما مرّ آنفاً ، وهو لا يترتّب على مثل هذا الجعل.
الثالث : أنّه قد تصير الامور الاعتباريّة منشأ لآثار تكوينيّة في الخارج بمعنى إنّها تصير سبباً لانقداح إرادة فعل أو كراهته في نفس الإنسان فيفعل عملاً أو يتركه ، وهو يوجب إيجاد أمر تكويني في الخارج ، فمثلاً الأمر بالصيام في شهر رمضان يوجب انقداح إرادة الصّيام في نفس المكلّف فيصوم ، والصّيام يصير منشأً وسبباً