أقول : الحقّ ـ كما أفاد هذا العلم في دفع هذا التوهّم ـ عدم وجود قسم ثالث للواجب لأنّه يمكن أن تكون الموارد المزبورة من مصاديق الواجب الغيري لما مرّ من أنّ وجوب المقدّمة لا ينشأ ولا يترشّح من وجوب ذي المقدّمة كترشّح المعلول من علّته حتّى لا يعقل وجوبها قبل إيجابه ، بل العلّة لوجوبها إنّما هي إرادة المولى ، وأمّا وجوب ذي المقدّمة فهو مجرّد داعٍ لارادته ، ومن المعلوم أنّ الداعي للإرادة كما يمكن أن يكون أمراً حالياً كذلك يمكن أن يكون أمراً استقبالياً ، هذا ـ وقد مرّ أنّ هذا هو أحد طرق حلّ الإشكال في المسألة ، وقد ذكرنا هناك طرقاً اخر لحلّها ، منها كون وجوب المقدّمة قبل إيجاب ذيها من باب وجوب حفظ غرض المولى وقد مرّ تفصيلها في البحث عن الواجب المعلّق فراجع.
والتحقيق في المسألة وتنقيح المقال فيها يحتاج إلى رسم مقدّمة قبل الورود في أصل البحث ، وهي أنّ الثواب المترتّب على الواجب النفسي هل هو من باب الاستحقاق ، أو التفضّل؟
اختلفت فيه كلمات الفقهاء والمتكلّمين ، والمشهور والمعروف أنّه من باب الاستحقاق ، ولكن حكي عن الشّيخ المفيد رحمهالله وجماعة أنّه من باب التفضّل من الله سبحانه ، ولا إشكال في أنّ الظاهر من آيات الكتاب هو الأوّل حيث تعبّر عن الثواب بالأجر في عدد كثير منها (١) وأكثرها مربوطة بمسألة الجزاء في يوم القيامة ، ومن المعلوم أنّ كلمة « الأجر » ظاهرة عند العرف في الاستحقاق لا التفضّل فلا يعبّر عرفاً عن الضيافة والاطعام تطوّعاً وتقرّباً إلى الله تعالى مثلاً بأجر الضيوف كما لا يخفى ، كما أنّ ظاهر المقابلة بكلمة الباء في مثل قوله تعالى : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ )(٢) وقوله تعالى : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )(٣) أيضاً هو الاستحقاق ، بل وقوع المقابلة بين الأجر والفضل في مثل قوله تعالى : ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ
__________________
(١) قد تكرّرت مادّة الأجر في القرآن الكريم أربعين مرّة بصيغة « أجرٍ » و « أجرٌ » وسبع وعشرين مرّة بصيغة « أجراً » وأكثرها واردة في أمر القيامة.
(٢) سورة الرعد : الآية ٢٤.
(٣) سورة النحل : الآية ٣٢.