قلت : إنّه إذا تولّد الإنسان بين أهل لغة خاصّة وعاش فيهم كان ذلك في الواقع تعهّداً ضمنيّاً على الالتزام بجميع ما كان بينهم من الآداب والسنن والالتزامات ومنها الالتزام بمعاني الألفاظ وأوضاعها.
ويرد عليه : أنّ الوجدان حاكم على أنّ جملة « وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى » ليس بمعنى « تعهّدت إنّي كلّما ذكرت هذا اللفظ أردت منه هذا المعنى » بل هو من قبيل جعل علامة للمعنى كما يشهد به كلمة « الوضع » فإنّه بمعنى الجعل والنصب.
القول الرابع : ما أفاده جمع من المحقّقين وهو أنّ حقيقة الوضع أمر اعتباري وهو جعل اللفظ علامة للمعنى في عالم الاعتبار.
توضيحه : إنّه تارةً يوضع شيء علامة لشيء آخر في عالم الخارج كوضع علامات الفراسخ في الطرق ، والعمامة السوداء مثلاً لكون الشخص هاشميّاً ، وقد يوسم بعض الحيوانات ويجعل له علامة كي يعرفه صاحبه ، واخرى يجعل شيء علامة لشيء آخر في عالم الاعتبار وفقاً للعلامات الخارجيّة ، ومن هذا القسم جميع المفاهيم الإنشائيّة التي تكون اموراً اعتباريّة مشابهة لمصاديقها الخارجيّة من بعض الجهات ، فإنّ ملكيّة الإنسان وسلطنته على ماله عند العقلاء في عالم الاعتبار مثلاً أمر ذهني يشبه ملكيته وسلطنته على نفسه تكويناً ، والزوجيّة بين الزوج والزوجة تجعل في عالم الاعتبار وفقاً للزوجيّة التكوينيّة بين الأشياء الخارجيّة ، وكذلك الألفاظ بالنسبة إلى معانيها في ما نحن فيه ، فإنّ حقيقة الوضع جعل اللفظ علامة للمعنى في عالم الاعتبار وفقاً للعلامات التي توضع على الأشياء الخارجيّة.
أقول : وهذا أحسن ما يمكن أن يقال في المقام ، إلاّ أنّه يتصوّر في خصوص الوضع التعييني ، أمّا في التعيّني فلا ، لعدم جعل ولا إنشاء فيه.
فظهر ممّا ذكرنا أنّ علينا اختيار قول خامس يشمل ويعمّ كلا نوعي الوضع ، وهو أن يلتزم بالتفكيك بين النوعين في حقيقتهما ويقال : إنّ الوضع التعييني حقيقته جعل اللفظ علامة للمعنى كما مرّ في القول الرابع ، وامّا التعيّني فحقيقته هو الانس الذي يحصل من كثرة استعمال اللفظ التي توجب تبادر المعنى إلى الذهن من سماع اللفظ كما مرّ في القول الثاني ، فلابدّ من الجمع بين تعريفين من التعاريف السابقة كيما يكون التعريف تامّاً وجامعاً لجميع أنواع الوضع.