فمنها : ما روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام : « من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال ، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل » (١).
ومنها : ما روي عن حريز : « أنّ أبا حنيفة قال له : أنت لا تقول شيئاً إلاّبرواية قال : أجل » فهو يدلّ على أنّ مثل حريز الذي كان من كبار أصحاب الصادق عليهالسلام وخواصّهم لا يقول شيئاً إلاّ برواية ولا حجّة عنده إلاّ الرّواية (٢).
والجواب عنها أيضاً هو الجواب عن الطائفتين السابقتين ، فلا بدّ من ملاحظة خصوصيّات تلك الأعصار حتّى يثبت لنا أنّ مراد أبي حنيفة في قوله « أنت لا تقول شيئاً إلاّبرواية » عدم اعتناء حريز بالقياس والاستحسان ، حيث إنّه لا ريب في أنّ الحريز أيضاً كان يعمل بحكم العقل في تقديم الأهمّ على المهمّ مثلاً والتمسّك بالكذب لنجاة مؤمن لو ابتلى به ، وإن لم يصدر فيه من جانب الإمام عليهالسلام رواية ، كما أنّ المراد من أخذ الدين من أفواه الرجال أيضاً ليس إلاّ أخذه من القياسات الظنّية والاستحسانات غير القطعيّة.
أضف إلى ذلك ما رواه ابن أبي ليلى عن أبي عبدالله عليهالسلام أنّه قال لأبي حنيفة : « فدع الرأي والقياس وما قال قوم في دين الله ليس له برهان » (٣) فإنّها تشهد على أنّ مقصود هذه الطائفة من الأخذ بالرواية هو الاجتناب عن الآراء الظنّية ، حيث إنّها تعبّر عن الرأي القياس بـ « ما ليس له برهان ».
هذا كلّه في الوجوه التي استدلّ بها الأخباريون لمرامهم.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمهالله أضاف إليها وجهاً رابعاً ، وحاصله : أنّا نحتمل كون حجّية دليل العقل من جانب الشارع مشروطاً بوساطة من جانب الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم ، وبعبارة اخرى : أنّ دليل العقل يدلّ على الحكم الشأني لا الفعلي ويصل إلى مرحلة الفعليّة إذا ايّد بالكتاب أو السنّة ، ومجرّد وجود هذا الاحتمال يوجب بطلان الاستدلال بالأدلّة العقليّة.
وأجاب عنه بالقول : « أنّ العقل بعد ما أدرك المصلحة الملزمة في شيء كالكذب المنجي
__________________
(١) وسائل الشيعة : ح ٢٢ ، الباب ١٠ ، من أبواب صفات القاضي.
(٢) المصدر السابق : ح ٣٢ ، الباب ١١.
(٣) المصدر السابق : ح ٣٣ ، الباب ١٠.