كثير من الموارد ويخاطب الناس بقوله : ( أفلا تتفكّرون ) أو ( أفلا تعقلون ) وبقوله : ( يا اولي الألباب ) و ( هاتوا برهانكم ) ولذلك اعترف كثير من الأخباريين بإدراك العقل للضروريات العقليّة واضطرّوا إلى استثنائها من مقالتهم ، وقد مرّ تفصيل الجواب عنهم في مباحث القطع وحجّية القطع الحاصل من طريق العقل فراجع.
الأمر الثالث : إذا اجتمع عنوانان أو عناوين عديدة بعضها حسن وبعضها قبيح على شيء واحد كالدخول في الأرض المغصوبة (١) لإنقاذ الغريق فإنّه قبيح من جهة انطباق عنوان الغصب عليه ، وحسن من جهة انطباق عنوان الإنقاذ عليه ، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ الفعل تابع لأقوى الجهات بعد كسر وانكسار أو يصير خالياً عن الحسن والقبح إذا كانت الجهات متساوية فلا يكون من باب اجتماع النقيضين ( كما توهّمه بعض واستكشف من طريق استحالته عدم حسن الأفعال وقبحها ذاتاً.
ثمّ إنّه استدلّ لعدم حسن الأفعال وعدم قبحها ذاتاً بوجوه واهية :
منها : أنّه لو كان الحسن والقبح عقليين لزم الجبر في أفعال الله تعالى ( سواء في ذلك أفعاله التكوينيّة أو التشريعية ) أي لزم أن يكون الشارع الحكيم مقيّداً في تشريعه للأحكام بهذه الأوصاف ، وهذا ينافي اختياره تعالى في أفعاله على الإطلاق.
والجواب عنه واضح ، لأنّ الجبر في فعل شيء ، ووجود الصارف الاختياري عن ذلك الفعل شيء آخر ، فإنّ السلوك على وفق الحكمة وعدم التخطّي عمّا تقتضيه لا ينافي الاختيار ، لأنّ العاقل السويّ لا يقدم على شرب السمّ مثلاً وهو مختار مع أنّه قادر عليه ، فعدم وقوع الشرب منه لصارف لا ينافي قدرته واختياره بل هو بنفسه إختار عدم الشرب ، كما أنّ صدور فعل منه لداعٍ لا ينافي الاختيار ، وكذلك الحكيم تعالى.
__________________
(١) وقد جاء التمثيل لهذا في بعض الكلمات بقول القائل : « سأكذب غداً » فإنّ كذبه غداً قبيح من باب قبح الكذب وحسن من باب الوفاء.
ولكن يرد عليه أنّه مغالطة واضحة فإنّ وجوب الوفاء يختصّ بما إذا كان المتعلّق راجحاً.