إحديهما : ما حكي عن الشافعي في مذمّة الاستحسان وهو : « من استحسن فقد شرّع » (١) لكن اختلف في المراد من هذه الجملة فحكي عن الفتوحات أنّ المراد منها أنّ للاستحسان مقاماً عالياً كمقام الأنبياء وتشريعاتهم ، لكن الإنصاف أنّ الواضح كونها في مقام المذمّة ، ولذا عدّوا الشافعي من نفاة الاستحسان.
ثانيها : ما نقل عن المالك في مدح الاستحسان وهو « أنّه تسعة أعشار العلم » (٢).
ونسب إلى الظاهريين منهم إنكاره ، والمعروف من مذهب أصحابنا نفيه مطلقاً.
هذه هي الأقوال في المسألة.
ثمّ إنّ الاستحسان على قسمين : قطعي وظنّي.
فالقطعي منه لا كلام في حجّيته بناءً على الحسن والقبح العقليين وقاعدة الملازمة.
والظنّي هو موضع البحث والنزاع. فالقائلون بحجّيته تمسّكوا بالكتاب والسنّة والإجماع.
أمّا الكتاب : فاستدلّوا أوّلاً : بقوله تعالى : ( فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٣). وثانياً : بقوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ) (٤) بتقريب أنّ مدح العباد على اتّباع أحسن القول في الآية الاولى وإلزامهم باتّباع أحسن ما انزل إليهم من ربّهم في الآية الثانية أمارة على جعل الحجّية له بالنسبة إلى الأقوال ، ومع إلغاء الخصوصيّة للأقوال تثبت الحجّية للاستحسان في الأفعال أيضاً.
لكن الإنصاف أنّه لا ربط للآيتين بالاستحسان ، فإنّهما مربوطتان بالأحسن الواقعي ، والطريق إلى الواقع إنّما هو القطع أو الظنّ الثابت حجّيته لأنّ الألفاظ وضعت للمعاني الواقعيّة ولم يؤخذ فيها العلم والجهل ، فوضع لفظي « الدم » و « الخمر » مثلاً للدم والخمر الواقعيين ، فإن قطعنا بالواقع فهو حجّة لكون القطع نفس مشاهدة الواقع فيكون حجّة ذاتاً ، وإن ظننا فلا دليل على حجّيته وليست الحجّية ذاتيّة للظنّ ، هذا أوّلاً.
ثانياً : المحتمل في المراد من « القول » في قوله تعالى : « ويستمعون القول » وجهان :
__________________
(١) الاصول العامّة : ص ٣٦٣ ، وفوائد الرحموت حاشية المستصفى : ج ٢ ، ص ٣٢١.
(٢) المصدر السابق.
(٣) سورة الزمر : الآية ١٨.
(٤) سورة الزمر : الآية ٥٥.