إن قلت : إذا أمكن أن تدرك المصالح والمفاسد بالعقل فلا حاجة إلى الشرع.
قلنا : إنّ العقل إنّما يدرك المصالح والمفاسد القطعيّة في دائرة مضيّقة محدودة خاصّة من الامور ، وما يبقى خارجاً من هذه الدائرة هو الأكثر فليس للعقل سبيل إلى المصالح والمفاسد في أحكام الإرث وكثير من مسائل النكاح والنساء والمحرّمات وكثير من المعاملات وما يحلّ وما يحرم من اللحوم والأطعمة والأشربة وغيرها من أشباهها ، والشاهد على ذلك ما نشاهده من التغييرات في القوانين البشريّة في هذه الامور كلّ يوم ، وبالجملة أنّ العقل هو بمنزلة مصباح مضيء في صحراء مظلمة يضيء دائرة محدودة منها فقط ، وأمّا الشرع فهو كالشمس في السماء يضيء كلّ شيء.
« الذريعة » في اللغة تطلق على مطلق الآلة والوسيلة ولكن في الاصطلاح تطلق على وسيلة خاصّة ، فتكون بمعنى التوصّل بما هو مصلحة إلى مفسدة ، وسدّ الذرائع هو المنع عمّا يتوصّل به إلى الحرام ، أي المنع عن مقدّمة الحرام ، فحقيقة الذريعة هي نفس ما يبحث عنه في علم الاصول بعنوان مقدّمة الحرام لكنّها عند بعض بمعنى مطلق المقدّمة ، فتكون الذريعة حينئذٍ مطلق ما كان وسيلة وطريقاً إلى شيء ، ولذلك تجري فيه جميع الأحكام الخمسة ، ولأجله قال بعضهم ، « سدّ الذرائع وفتحها » و « الذريعة كما يجب سدّها ، يجب فتحها وتكره وتندب وتباح ».
والشاهد للتفسير الأوّل عبارة « موافقات الشاطبي » نقلاً عن بعضهم : « الذريعة ربع الدين » (١) حيث إن الدين إمّا أن يكون أمراً أو نهياً ولكلّ منهما مقدّمات تخصّه ، فينقسم الدين حينئذٍ إلى أربعة أقسام : الواجبات ومقدّماتها ، والمحرّمات ومقدّماتها أيضاً ، فيصحّ أن يقال : إنّ الذريعة ربع الدين.
ثمّ إنّ الموافقات نقل عن بعضهم معنىً ثالثاً للذريعة وهو « الحيلة » فسدّ الذرائع بمعنى سدّ
__________________
(١) موافقات الشاطبي : ج ٤ ، ص ١٩٩.