هو إتمام الحجّة على الناس ، فهو كناية عن بيان التكليف ، فلا موضوعيّة للبعث كما يشهد عليه أنّه لا يعقل العذاب في صورة البعث مع عدم البيان.
ثمّ إنّ هيهنا آيتين اخريين توافقان الآية المذكورة في الدلالة على البراءة في ما نحن فيه ، وقد غفل عنهما في كلماتهم :
الاولى : قوله تعالى : « وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ » (١) حيث لا يخفى إنّ دلالة هذه الآية أظهر ممّا ذكره القوم ، لما ورد فيها من التعبير بـ « يتلوا عليهم آياتنا » الذي يدلّ صريحاً على بيان التكليف وإنّه لا عقاب إلاّبعد البيان ، فلا حاجة فيها إلى التوجيه المذكور في تلك الآية من أنّ البعث كناية عن البيان.
الثانية : قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى » (٢) حيث إنّ المراد من كلمة « قبله » هو قبل بعث الرسل ، فتدلّ على البراءة بناءً على أنّ نقل كلام الكفّار مشعر بالقبول.
وبالجملة ، إنّ لهذه الآيات الثلاثة مدلولاً واحداً مشتركاً ، وهو البراءة في الشبهات الحكميّة مطلقاً.
ولكنّه قد يناقش في دلالتها بامور عديدة ، وما قيل أو يمكن أن يقال فيها امور خمسة :
الأمر الأوّل : ما أورده المحقّق الخراساني رحمهالله ، وحاصله : إنّ الآية تدلّ على نفي فعلية العذاب لا نفي استحقاقه ، ونفي الفعليّة ليس لازماً مساوياً لنفي الاستحقاق حتّى يدلّ نفيها على نفيه ، بل هو أعمّ من كونه من باب عدم الاستحقاق أو من باب تفضّله تبارك وتعالى على عباده مع استحقاقهم للعذاب ، فلا يصحّ الاستدلال بالآية على البراءة.
ثمّ أورد على نفسه بأنّ المخالفين يعترفون بالملازمة بين نفي الفعليّة ونفي الاستحقاق.
وأجاب عنه أوّلاً : بأنّ قبول الخصم لا يوجب صحّة الاستدلال بها إلاّجدلاً مع أنّنا
__________________
(١) سورة القصص : الآيه ٥٩.
(٢) سورة طه : الآية ١٣٤.