استصحاب عدم الجعل مقدّم لكونه سببيّاً ) لأنّ الاستصحاب الحكمي بنفسه يكون جعلاً لحكم ظاهري ، ولذلك يقال : إنّ استصحاب الحكم من قبيل جعل مماثل ، فإنّ معنى استصحاب نجاسة الماء الذي زال عنه التغيّر أنّ الشارع جعل له نجاسة ظاهريّة في هذا الحال ، ومع وجود هذا الحكم الظاهري لا يبقى شكّ في جعل الطهارة ، فلا مجال لاستصحاب عدمه.
٤ ـ ( هذا وما بعده من الإشكال الآتي هو العمدة في المقام ) أنّ الاستصحاب الحكمي ( استصحاب المجعول ) لا يكون معارضاً لاستصحاب عدم الجعل في جميع الموارد والأمثلة ، بل كثيراً ما يكون موافقاً له ، كاستصحاب طهارة المذي الخارج بعد الوضوء الذي لا يعارضه استصحاب عدم جعل ناقضية المذي ( فإنّ استصحاب عدم الجعل فيه عبارة عن استصحاب عدم الناقضية كما لا يخفى ) بل يعضده ، وهكذا استصحاب بقاء الملكية في عقد المعاطاة بعد قول المالك الأوّل « فسخت » فإنّه ليس معارضاً لاستصحاب عدم جعل الفسخ رافعاً ، وأمّا الملكيّة الحاصلة بالبيع فهى مستمرّة بالإجماع لولا الفسخ ، فلا يمكن أن يقال : نحن نشكّ في جعل الملكية حتّى في ما بعد الفسخ ، لأنّه عبارة اخرى عن جعل الفسخ نافذاً ، والأصل عدم جعله نافذاً ، فهو موافق لاستصحاب بقاء الملكية ، وكذلك بالنسبة إلى كلّ مورد يكون الشكّ فيه في النقض أو الرفع أو الفسخ.
فلابدّ لمن قام دليله على عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة وتعارضه مع استصحاب عدم الجعل أن يفصّل ثانياً بين مواردها فيكون تفصيلاً في تفصيل.
٥ ـ إنّ الأساس في الاستصحاب كما مرّ كراراً إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم ، وهى قائمة في خصوص الموارد التي تكون الغلبة فيها على البقاء ، مثل الصحّة والمرض الذي تكون الغلبة فيه على السلامة ، وفي الأملاك والمساكن التي تكون الغلبة فيها بقائها على حالها ، وأمّا فيما إذا كانت الغلبة على العكس ، كما إذا وقعت زلزلة في بلد من البلاد وخربت أكثر بيوته ، ففي مثل هذا المورد لا يعتمد العقلاء على استصحاب بقاء دار زيد مثلاً ، أو إذا شاع مرض مثلاً وأهلك غالب سكّان البلد فلا شكّ في أنّهم لا يعتمدون أيضاً على استصحاب حياة زيد مثلاً ، ومن هذا القبيل ما نحن فيه ، حيث إنّ ظهور الإسلام والشريعة المقدّسة أوجب تزلزلاً وتغييراً أساسيّاً بجعل أحكام جديدة في كثير من الموضوعات بحيث صارت الغلبة على وجود الجعل والمجعول ، وفي مثله لا تأتي تلك السيرة مع ذلك الملاك ، فلا يجري استصحاب عدم الجعل فيه.