ومن ذلك يعلم أنّه لا يتصوّر التعارض فيما إذا كان كلّ من الدليلين قطعيّاً من جميع الجهات لأنّه ينافي العلم بكذب أحدهما ، بل لا يمكن فرض وجود دليلين قطعيين متخالفين حتّى يتكلّم فيهما من هذه الجهة.
هذا كلّه في ما أردنا إيراده بعنوان المقدّمة.
إذا عرفت هذا فلنتكلّم في أصل البحث فنقول ( ومنه سبحانه نستمدّ التوفيق ) : هيهنا فصول :
فهل الأصل في التعارض التساقط ، أو التخيير ، أو الجمع مهما أمكن؟
قد يقال : بلزوم الجمع بينهما استناداً إلى القاعدة المعروفة « الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » ولعلّ أوّل من طرحها ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي وإن تصدّى للعمل بها شيخ الطائفة رحمهالله في الاستبصار ( ولا يخفى أنّ الأولوية في هذه القاعدة هى الأولويّة التعيينية ، أي وجوب الجمع مهما أمكن لا استحبابه نظير ما ورد في قوله تعالى : ( وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ) (١) ).
ولكنا نقول : الجمع يتصوّر على أقسام :
أوّلها : الجمع التامّ بين الدليلين بالعمل بتمامهما من دون أي تصرّف فيهما فإن أمكن ذلك ولو بتدبير وبذل جهد فلا إشكال في وجوبه بل هو خارج عن محلّ الكلام ومن التعارض.
ثانيهما : أن يكون المراد منه العمل ببعض كلّ منهما أو بعض أحدهما وتمام الآخر عملاً يوافقه العرف ويستحسنه ، فلا إشكال أيضاً في تعيّنه وكونه أولى من الطرح كما في العام والخاصّ ، ولكنّه أيضاً خارج عن محلّ الكلام لأنّه لو كان بينهما تعارض فإنّما هو في النظر البدوي.
ثالثها : أن يكون المراد منه الجمع بين الحقوق المتزاحمة في باب التزاحم ، كالجمع بين
__________________
(١) سورة الأنفال : الآية ٧٥.