لا إشكال في اختلاف موارد الاحتياط من جهات ثلاثة : من ناحية قوّة درجة الاحتمال وضعفها ، ومن ناحية قوّة المحتمل وضعفها ، ومن ناحية قيام الأمارة على الجواز وعدمه.
ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى حسن الاحتياط مطلقاً في مطلق الشبهات سواء كانت وجوبيّة أو تحريميّة وسواء كانت حكميّة أو موضوعيّة وسواء قامت الحجّة على العدم أم لم تقم وسواء كان الاحتمال أو المحتمل قويّاً أو ضعيفاً ، نعم إنّه قال : إنّ حسن الاحتياط مطلقاً منوط بعدم إخلاله بالنظام وإلاّ يكون الاحتياط قبيحاً فلابدّ حينئذٍ من ترجيح بعض الاحتياطات على بعض ، أمّا بملاك إقوائية الاحتمال أو إقوائيّة المحتمل أو بملاك عدم قيام الأمارة على العدم.
أقول : هنا نكتتان ينبغي ذكرهما في المقام :
إحديهما : إنّ اختلال النظام من العناوين الثانوية للأحكام ولا خصوصيّة له في المقام بل كلّ عنوان ثانوي يزاحم حسن الاحتياط لابدّ من تقديمه عليه ، كما إذا لزم من الاحتياط ترك المراودة والمعاشرة مع المؤمنين أو ترك صلة الأرحام أو إيذاء المؤمن أو هتكه أو لزم منه تشويه وجه المذهب في الأنظار أو ترك أمر أهمّ كتحصيل العلم لطلاّب العلوم الدينية ( وكلّ هذه العناوين ممّا يبتلى بها كثيراً في الاحتياط التامّ ) فلا حسن في مثل هذه الموارد للاحتياط وإن لم يلزم منها اختلال النظام.
الثانية : يمكن أن يقال : إنّه لا دليل أصلاً على حسن الاحتياط التام في الشبهات الموضوعيّة في جميع الموارد ، بل الدليل على خلافه فيما إذا قامت الأمارة على الخلاف ، والشاهد على ذلك لحن الروايات الواردة عن المعصومين بالنسبة إلى سوق المسلمين في الجبن وغيره نظير ما رواه أبو الجارود قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الجبن فقلت له : أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان » (١).
فإنّ مقتضى السياق العرفي لهذه الرواية وأمثالها مرجوحية الاحتياط وإنّه مرغوب عنه
__________________
(١) وسائل الشيعة : الباب ٦١ ، من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٥.