وأمّا القول الثاني فظهر ضعفه من جهة اعتبار عدم الظن بالخلاف . ثم إنّه يرد عليه الإشكال أيضاً ، في حمل اللفظ على الحقيقة في الأمثلة المذكورة ، لما قد عرفت من أن بناء أهل اللسان على العمل بالظواهر العرفية ، ولا ريب أنه بعد اكتناف اللفظ بشيء متصل يحتمل كونه قرينة ، لا يبقى له ظهور عرفي حتى يعمل به .
ثم ـ ها هنا ـ تفصيل آخر للسيد المتقدم ـ أعني صاحب المفاتيح (١) ( قدس سره ) ، وهو انّ احتمال إرادة خلاف مقتضىٰ اللفظ ، إن حصل من امارة غير معتبرة ، فلا يصح رفع اليد عن الحقيقة ، وإن حصل من دليل معتبر ، فلا يعمل بأصالة الحقيقة ، ومثّل له : بما إذا ورد في السّنة المتواترة عام ، وورد فيها أيضاً خطاب مجمل يوجب الإجمال في ذلك العام ، ولا يوجب الظن بالواقع .
والجواب عنه : ما ذكره شيخنا ( دام ظله ) في رسالته في هذا المقام فراجع (٢) .
وكيف كان ، فقد عرفت المختار ـ في اعتبار أصالة الحقيقة ـ من اختصاصها بالخطابات الغيبية ، ولا ريب أنّ أهل اللسان لا يفرقون ـ حينئذ في العمل بالظاهر العرفي من اللّفظ ـ بين كونه مظنوناً او مشكوكاً أو موهوماً بغير الظن المعتبر على خلافه .
ويكشف عن ذلك الرجوع إلى الفحص عن أحوالهم في مثل المكاتيب ، والرسائل ، حيث أنّك تراهم يجعلون ظاهر اللفظ حجة ، ويرتبون عليه أحكامه من غير أنْ يتوقّفوا ، مع الظن الغير المعتبر على خلافه .
ألٰا ترى أنّه لو كتب أحد لآخر مكتوباً ، وكتب فيه الشتم والسبّ على ثالث ، فوقع المكتوب بيد ذلك الثالث ، فلا يتوقف في جعله حجّة على الكاتب ، بحيث لو اعتذر الكاتب بأنّي لم أقصد من الكتابة الشّتم ، وإنّما قصدت به المشق (٣) لم يسمع منه ذلك ، و يصحّ عقابه عند العقلاء .
هذا ، ومن الظواهر اللفظية المجازات المحفوفة بالقرائن وهذا ما هو المشهور من أن المجازات مع القرائن حقائق ثانوية ، أي في حكمها ، ويراد بها وجوب حمل اللفظ عليها ، عند الخلو عن الصارف للّفظ عن الظهور ، الذي حصل له بواسطة قرينة ، ولو مع عدم إفادة اللفظ العلم بكون الظاهر مع القرينة مراداً ، وهو أي ظهور اللفظ مع القرينة على قسمين :
___________________________
(١) مفاتيح الاصول للسيد محمّد : ٣٦ .
(٢) فرائد الأصول : ٤٥ .
(٣) للمشق معان عديدة والمعنى المناسب هنا : جذب الكلام وإطالة الرسالة والكتابة .