فاذا عرفت ذلك كله ، فلنرجع إلى تحقيق الحال في الأقوال فنقول :
إنّ الحق أوسطها ، أعني التوقف في الاستدلال بواحدٍ من الأصلين على إثبات شيء من مؤداهما ، والاستدلال بهما معاً على نفي الثالث ، فنبتدىء أولاً بذكر ضعف القولين الآخرين ، ثم نحتج على ما اخترناه من البين .
أما ضعف الأوّل منهما ـ أعني التخيير في الاستدلال بأيّهما شاء ـ ، فبيانه أن المراد بالتخيير فيهما ، إما التخيير الواقعي الناشئ عن كون المصلحة في السلوك على طبق كل منهما :
إمّا مع عدم إمكان تدارك مصلحة كل منهما بمصلحة الآخر بأن يكون تعارضهما من باب تزاحم الواجبين ، بحيث لو أمكن الجمع بينهما لكان العمل بكليهما مطلوباً ، كما في كل واجبين متزاحمين ، كتزاحم إنقاذ الغريقين ، فيكون التخيير واقعياً عقلياً ناشئاً عن عجز المكلف عن الجمع بينهما .
وإمّا مع إمكان تدارك المصلحة في كل منهما بمصلحة الآخر ، فيخرجان عن حقيقة التعارض ، فيكون التخيير شرعياً واقعياً ، كما في خصال الكفارة .
وإمّا التخيير الظاهري ـ الناشئ عن قيام المصلحة بأحدهما خاصّة في الواقع ـ الثابت بحكم العقل ، كما ثبت في كلّ طريقين علم بكون أحدهما موصلاً وخلوّ الآخر عن مصلحة الايصال ، مع عدم ما يرجّح كون أحدهما بخصوصه هو الطريق الموصل وإمّا بدليل شرعيّ ، كما في تعارض الأخبار على المشهور .
والمختار والحق انتفاؤه في المقام بجميع معانيه الأربعة المذكورة .
أمّا التخيير الواقعي ، فبطلانه بكلا قسميه في المقام أوضح من أن يذكر ، إذ لا ريب أنّ العمل بالاصول اللفظية عند العرف ليس إلّا لمجرد الكشف عن المراد ، والطريقية المحضة ، ولا مرية أنّ طريقة الشارع في المحاورات ـ وما يتعلّق بها ـ ليست طريقة مغايرة مجعولة منه ، فلا تعبّد منه بالعمل بالاصول اللفظية أيضاً ، ولا شك أنّ تلك المصلحة ـ أعني الكشف والطريقية ـ لا يعقل قيامها بكل من الطريقين المتعارضين ، ضرورة استحالة تناقض الواقع ، فلا معنى للتخيير الواقعي حينئذٍ بوجه ، ومعلوم أنّ القائل به لا يريد هذا المعنى قطعاً .
ومن هنا ظهر أنّه لو قلنا بالتخيير في الاصول العملية لا يلزمنا القول فيما نحن فيه ، لقيام احتمال السببية في الاصول العملية ، دون الأصول اللفظية ، مع أنّ الحق في الاصول العملية أيضاً عدم التخيير والتساقط رأساً .