في ظنكم أني أحب الاطراء واستماع الثناء ، ولست بحمد الله كذلك ، ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء ، وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء ، فلا تثنوا علي بجميل ثناء لاخراجي نفسي إلى الله سبحانه وإليكم من البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها ، وفرائض لابد من إمضائها ، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي ، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن اخطئ ، ولا آمن ذاك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني ، فإنما أنا وأنتم عبيد مملو كون لرب لارب غيره يملك منا مالا نملك من أنفسنا ، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى ، وأعطانا البصيرة بعد العمى (١).
تبيين : قوله عليهالسلام : ( أوسع الاشياء في التواصف ) أي كل أحد يصف الحق والعدل ويقول : لو وليت لعدلت ، ولكن إذا تيسر له لم يعمل بقوله ولم ينصف الناس من نفسه ومعالم الشئ : مظانه وما يستدل به عليه ، والاذلال : المجاري والطرق. واختلاف الكلمة : اختلاف الآراء والاهواء. وقال الجزري : أصل الدغل الشجر الملتف الذي يكون (٢) أهل الفساد فيه ، وأدغلت في هذا الامر إذا أدخلت فيه ما يخالفه (٣) ، والمحاج جمع محجة وهي جادة الطريق ، واقتحمته عيني : احتقرته ، والاطراء : المبالغة في المدح ، قوله : ( من البقية ) في أكثر النسخ بالباء الموحدة ، أي لا تثنوا علي لاجل ما ترون مني في طاعة الله ، فإنما هو إخراج لنفسي إلى الله من حقوقه الباقية علي لم أفرغ من أدائها ، وكذلك إليكم من
____________________
(١) نهج البلاغة ( عبده ط مصر ) ١ : ٤٥٩ ـ ٤٦٣.
(٢) الصحيح كما في المصدر : يكمن.
(٣) النهاية ٢ : ٢٥.