العقلاء في استنباط مداليل الكلمات ، ومؤدّيات الأخبار والطلبات ، فالخطاب المتوجّه إلينا فعلا ليس إلاّ مثل هذه الأحكام ، ثمّ استظهره أيضا بجريان أصالة البراءة ، فإنّ وجود الحكم في الواقع لا ينافيها بل فيما لو كان الدليل مفقودا عندنا على الحكم ، فمن حيث عدم تنجّز التكليف بمفاد الدليل تجري أصالة البراءة في محلّ جريانها ، وتقضي عمّا لو حصل العلم بالواقع بأنّ بعد حصول العلم بالواقع ، فلا تكليف إلاّ به حيث إنّه لا يتصوّر طريقية طريق (١) بعد العلم ، فلا تكليف بمفاده لا فعلا ولا شأنا فإنّ السالبة قد تنفى بانتفاء موضوعها ، وأطال في بيان مرامه كما هو دأبه في غير المقام أيضا ، وفرّع عليه النتيجة المطلوبة من إعمال الظنّ في تشخيص الطريق لتحصيل الأحكام التي تتنجّز (٢) في حقّنا ، ويتوجّه علينا فعلا بعد انسداد باب العلم إليها (٣).
والجواب عن ذلك بعد تمهيد مقدّمة وهي أنّه لا ريب في أنّ لله أحكاما واقعية في كلّ واقعة والدليل على ذلك بعد الإجماع من المخطّئة هو تسلّم (٤) الخصم هنا وأنّها لا تنجّز في حقّنا إلاّ بعد العلم بها تفصيلا أو إجمالا مع التمكّن من الامتثال ، ولو لا أنّ العلم الإجمالي كاف في تنجّز التكليف مع تمكّن المكلّف مثلا ، لما صحّ تكليف الكفّار بالفروع مع أنّ الإجماع منعقد منّا (٥) على التكليف فيها بالنسبة إليهم ، ويدلّك على هذا ظواهر بعض الآثار المرويّة عن الهداة الأبرار عليهمالسلام. (٦)
فمنها : ما قد رواه بعضهم فيما سألهم عن سماع غناء الجواري ، فأجابه عليهالسلام بأنّه « ما أسوأ حالك فيما لو تموت على مثل هذه الحالة » فإنّ من الظاهر أنّ العلم التفصيلي لم يكن له حاصلا ، ولو لا العلم الإجمالي أيضا ، فلا وجه لبقائه كما يظهر من قوله عليهالسلام : « ما أسوأ ».
__________________
(١) « ل » : طريقة.
(٢) « ش » : تنجّز.
(٣) انظر هداية المسترشدين : ٣٨٤ ـ ٣٨٥.
(٤) « ل » : تسليم.
(٥) « ل » : ـ منّا.
(٦) الوسائل ٣ : ٣٣١ ، باب ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة ، ح ١. وتقدّم في ص ٨٤ وسيأتي في ص ٤٩٩ و ٥٨٤.