وقيل أيضا : لأنّ دفع المفسدة أهمّ من جلب المنفعة (١).
وهذا إنّما يتمّ فيما يحتمل الندب والحرمة لا الوجوب والحرمة ؛ لأنّ ترك الوجوب أيضا يشتمل على المفسدة.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يبقى كلّ واحد من الأمر والنهي على إطلاقه من غير تخصيص أحدهما بالآخر حتّى إذا أتى المكلّف بما اجتمعا فيه ، استحقّ العقوبة بالنهي وإن كان ممتثلا للأمر ؛ فإنّه لا مانع ـ لغة وعقلا ـ أن يقول أحد لغيره : « اكتب ، ولا تكتب في الموضع الفلاني ، ولو كتبت فيه لعاقبتك ولكن حصّلت مطلوبي »؟ ولذا قيل : النهي لا يدلّ على الفساد (٢).
قلت : هذا جائز عند التصريح (٣) ، وأمّا عند التعارض ـ كما نحن فيه ـ فلا يفهم منه إلاّ التخصيص كما ذكر.
احتجّ الخصم بوجهين :
أحدهما : أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه فيه ، فإنّا نجزم بأنّه مطيع عاص معا من جهتي الأمر والنهي (٤).
قيل في الجواب : بالفرق في الموضعين بأنّ الكون في المكان المغصوب جزء من الصلاة ؛ لأنّه عبارة عن شغل الحيّز ، وهو جنس للحركة والسكون ، ولا شكّ في أنّهما جزءان للصلاة ؛ لأنّ من أجزائها القيام والركوع وملاصقة الأرض للسجود وغير ذلك ، فالكون هنا جزء من ماهيّة الصلاة في المكان الغصبي ، وهو منهيّ عنه ، فلو كان الصلاة في المكان الغصبي مأمورا بها ، لكان هو أيضا كذلك ؛ لأنّ الأمر بشيء أمر بأجزائه وفاقا كما علمت.
وأمّا الكون في المكان المخصوص فليس جزءا من الخياطة ؛ لأنّها أمر حاصل من الحركة والسكون ، فهما (٥) معدّان لها وليسا جزءين من ماهيّتها ، فالكون المذكور ليس جزءا
__________________
(١) ذهب إلى الاعتناء بدفع المفاسد الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٢١٧ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٦٧.
(٢) نقله الفخر الرازي عن أكثر الفقهاء في المحصول ٢ : ٢٩١.
(٣) في « ب » : « الصريح ».
(٤) حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : ٩٤.
(٥) في « ب » : « وهما ».