كانت ممثّلة بالصليبين الإفرنج وبالمماليك البحريّة الذين استطاع الجراكسة سحب البساط من تحت اقدامهم ، فظلّوا يتحيّنون الفرص للانقضاض على فريستهم.
وكلّ هذه الأوضاع القت بظلالها السيّئة على الوضع الاجتماعيّ والسياسيّ ، على أنّ للحكام الجراكسة أثرا سيّئا على ذلك الوضع ، إذ أنّ حكّامهم وأمراءهم كانوا يعيشون حالة الانحطاط الخلقيّ والسلوك المشين الذي أدّى إلى الفصام النكد بين القيادة والقاعدة.
ورغم كلّ هذه الظروف السيّئة ، فقد شهدت هذه الفترة نشاطا علميّا ملحوظا ، حيث كانت ( دمشق ) تعدّ من مراكز العلم حيث يؤمّها العلماء وتعقد فيها الندوات وتتلاقح فيها الأفكار المختلفة.
وكان الشهيد قد انتقل من بلدة ( جزّين ) موطنه الأصليّ إلى ( دمشق ) حيث احتلّ فيها موقعا اجتماعيّا وفكريّا وسياسيّا ، فالشهيد كان على صلة بحكّام عصره ، ومن خلال هذه الصلة استطاع أن يقضي على أهل البدع والأهواء ( اليالوش ) ، وفي ( دمشق ) كان بيته لا يخلو من أهل العلم والفضل وكان يفتي الناس بحسب مذاهبهم ، « ومن حرص الشهيد على توحيد الكلمة كان يتجنّب في مجلسه الخوض في مسائل الخلاف بين ( الشيعة والسنة ) وإثارة الخلافات الكلاميّة فيما بينهم على صعيد الجدل ، فكان يخفى ما كان بيده من كتاب حين كان يزوره أعلام السنّة في مجلسه ، حتّى عدّ من كراماته أنه حينما ابتدأ بكتابة ( اللمعة الدمشقية ) لم يمرّ عليه زائر من علماء السنة ووجهاء دمشق إلى أن تمّت كتابة هذه الرسالة في سبعة أيام » (١).
وكان لتألّق الشهيد في سماء العلم والمعرفة ، والثقل السياسيّ والاجتماعيّ الذي كان يتمتّع به أثّرا في أن يقوم الأعداء بتلفيق التهم والأكاذيب عليه ورميه بـ ( الرفض ) ، الأمر الذي أدّى إلى سجنه مرّتين ومن ثمّ استشهاده ولحوقه بالرفيق الأعلى (٢).
الرسالة النفلية :
إنّ جميع كتب التراجم التي ترجمت للشهيد الأول ذكرت أنّ من ضمن مؤلّفات الشهيد الرسالة « النفليّة » تارة على حدة ، وأخرى مع الرسالة « الألفية ».
__________________
(١) « الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية » ١ : ( المقدّمة ) ص ١٣٩ ـ ١٤٠.
(٢) انظر : مقدّمة « الروضة البهيّة » وفيها دراسة موسّعة عن تاريخ تطوّر المدارس الفقهية لدى الشيعة وعن عصر الشهيد لأستاذنا سماحة آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي.