وحُسْنا ، ولا يرمينَّك الحسد بما يَكْمَدُ منه الروح والجسد ، فإنه لا راحة لحسود ، ولا نِعمةَ دائمةً لكَنُود (١).
وفى تَعَبٍ مَن يَحسُدُ الشَّمسَ نورَها |
|
ويَجْهَدُ أن يأْتِى لها بضريبِ (٢) |
فإن كتابنا هذا مَدْعاة للنفوس الشاردة ، مَذكاة للقلوب الهامدة ، مَعْلَقة بفؤاد المتفهِّم ، مَأْنَقَة لعين الناظر المتوسِّم ، رَوْضٌ ما أزهى أزاهيرَه ، وأبهَى فى عيون الأفاهيم أشاهيره (٣)! وإن كنتُ إنما أطفْت الأنوارَ بالعُمْيان ، وزَفَفْت الأبكار إلى الخِصيان ، غير أنه إذا سَعِد برضا الأمير ، أطال الله بقاءه ـ وأدام عِزّته وعَلاءه ـ فقد أغنى عن الوَشَل (٤) البحر ، وإذا الشمس لم تغرُب فلا طلَع البدْر ، ولو كان لكتابى هذا نَفْسٌ مُنْطَقة ، ولِسانٌ مُطْلقَة ، لأنشدَ قول أبى الطَّيِّب :
غَضَبُ الحسودِ إذا لَقيتُكَ رَاضِيا |
|
رُزْءٌ أخَفُّ علىَّ مِنْ أنْ يُوزَنا (٥) |
وهذا أوَانُ أُجَلِّى عليك جَمْهَرَة أوصافه ، إن لم يغُرَّك حسدٌ مالكٌ لك عن إنصافه ، وإن أبيت إلا الحَسادة فذلك إليك ؛ لأن الخُسران إنما يثبت فى يديك ، وقد قال الحكيم الذى لا يُدفع فضله : لا يَحْزُنْك دمٌ هَراقه أهلُه.
إن كتابنا هذا مشفوعُ المِثْل بالمثل ، مُقترِنُ الشَّكْل بالشَّكل ، لا يفصِل بينهما غريب ، ولا أجنبىّ بعيد ولا قريب ، مُهذَّب الفصول ، مرتَّب الفروع بعد الأصول ، ومَنْ شافَه (٦) عِلْما من عِلمْ الضرورة ، لم يألُ فى التحفُّظ بتقديم المادة على الصُّورة. هذا إلى ما تحلَّى به من التهذيب والتقريب ، والإشباع والاتساع ، والإيجاز والاختصار ، مع السلامة من التكرار ، والمحافظة على جمع المعانى الكثيرة ، فى الألفاظ اليسيرة ، فكم باب فى كتب أهْل اللغة أطالوه ، بأن أخذوا محموله على أنواع جَمَّة ، وأخذته أنا على الجِنس ، فغَنِيت عن ذكر الفروع بذكر القِنْس (٧) ، فإنه إذا كان المحمول مأخوذًا على الحيوان ، فلا مَحالة أنه مأخوذ على السَّبعُ والفَرَس والإنسان ، وغير ذلك من الأنواع التى نجد الحيوان لها جنْسا ، فربّ
__________________
(١) كند يكْنُد كُنُودًا : كفر النِّعمة.
(٢) البيت لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه ( ٢ / ٧٥ ) ؛ والضريب : المثيل.
(٣) فى بعض النسخ : الأفهام ، والأشاهر : بياض النرجس.
(٤) الوَشَل بالتحريك : الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة يقطر منه قليلاً قليلاً ، وقيل والوشل : الماء الكثير ، فهو على هذا من الأضداد.
(٥) البيت لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه ( ١ / ١٩٨ ).
(٦) شاف الشىء شوفا : جلاه.
(٧) القَنْس والقِنْس : الأصل.