كانت المطالب الجسيمة ، والمناقب الحُرّة الكريمة ، لا بدّ لها من اغتراق الجَلَد ، واعتراق قُوى المُهْجة والجسد ، ومَنْ طَلَب الروضة الأُنُف (١) ، رَكَضَ إليها الجيادَ الخُنُف (٢) ، ومِن حُكْم الرائد صِدْقُ الأهل.
*صَعْبُ العُلَى فى الصّعب والسَّهلُ فى السَّهل* (٣)
ثم إنه عاقه عن التصنيف فيها ما نِيط به من علائق السِّياسة ، وأعباء الرياسة ، وشغله عن ذلك ما حُبِىَ به من إدارته الممالك ، وتأمينه المسالك ، وخوضه بقَدَاميس (٤) الجيوش المهالك ، أرْوَى الله سِنانَه ، وأطال بَنانَه ، وزاد حَياةً جنانَه ، وأمْهَى (٥) فى مدة البقاء عِنانَه ، فالتمس من يُؤَهِّل لذلك من لُباب عبيده ، وصُيَّاب عَديده (٦) ، فوجد منهم فُضَلاءَ خِيارا ، ونُبَلاءَ أحْبارا ، لكن رآنى أطوَلهم يدا ، وأبعدَهم فى مِضمار العِتاق مَدَى ، فأمرنى بالتجرّد لهذه الإرادة ، وكسانى بذلك ثوب التنويه والإشادة ، وأرانى كيف أملك عِنان الحقيقة ، ومن أىّ المآتى أسلك مِتان الطَّريقة ، فأطعتُ وما أضعت ، وأجَدْتُ كلَّما أردت ، فأعْلَقْتُ وأفْلَقْت (٧) ، وألَّفت كتابى الملخَّص ، الذى سميته « المُخَصَّص » ، وهو على التبويب ، فى نهاية التهذيب ، وقد أرَيْتُ فى صدره : لمَ أردت وضعه على ذلك ، وَهَيْئَتُهُ بكيفيَّته ورتْبَتِه مُودَعَةٌ فى سِرّ خُطْبَتهِ.
ثم أمرنى بالتأليف على حروف المعجَم ، فصنَّفت كتابى « الموسوم بالمحكَم » ، وهو الذى اخْتطابِى نداءٌ عليه ، وخِطابى لك حُداء بك إليه. فَرُدْ (٨) بدائعَ زَهرَه ، ورِدْ (٩) مَشارِعَ نَهَرِه ، وتمشّ فى بساتينه ، وقلِّب طرفَك فى تهاويل (١٠) رياحينه ، ومِلْ إليه عَيْنا وأُذْنا ، تَأْنَقْ به نَعْمَةً
__________________
(١) روضة أُنف بالضم : لم يرعها أحد.
(٢) خنف : جمع خنوف ، وهى الناقة التى إذا سارت قلبت خف يدها إلى وحشيه من خارج.
(٣) عجز بيت للمتنبى فى ديوانه ( ٢ / ٢٨١ ) ، وتمامه :
سألتُ حبيبى الوصلَ منه دُعابَةً |
|
وأعْلَمُ أنَّ الوصل ليس يكونُ |
فمَاسَ دلالاً وابتهاجاً وقال لى |
|
برفقٍ مجيباً ( ما سألتَ يَهُونُ) |
(٤) جيش قدموس : عظيم.
(٥) أمهى الفرس إمهاء : أجراه ليعرق ، وأمهى الحبل : أرخاه.
(٦) الصُّيَّاب والصُّيَّابة : أصل القوم ، وبتخفيف الباء : الخالص من كل شىء ، والعديد : الذى يعد من أهلك وليس معهم.
(٧) أفلق فلان اليوم وهو يفلق إذا جاء بعجب.
(٨) راد الكلأ يروده رودًا أى طلبه ، ورادت الإبل ترود : اختلفت فى المرعى مقبلة ومدبرة. والأمر منه رُد مثل : قال يقول قُل ، راد يرود رُد.
(٩) ورد الماء وغيره ورْدًا وورودًا وورد عليه : أشرف عليه ، والأمر منه رد مثل : وعد يعد عِد ورد يرد رِد.
(١٠) التهاويل : الألوان المختلفة من الأصفر والأحمر ، ويقال للرياض إذا تزينت بنورها وأزاهيرها من بين أصفر وأحمر وأبيض وأخضر : قد علاها تهويلها.