وقد بين فيها بحسب مناسبة المقام أن الشريعة المحمدية أجمع الشرائع المنزلة وأن الاختلافات الواقعة في دين الله على وحدته ليست من ناحية الوحي السماوي وإنما هي من بغي الناس بعد علمهم ، وفي الآيات فوائد أخر أشير إليها في خلالها.
قوله تعالى : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » يقال : شرع الطريق شرعا أي سواه طريقا واضحا بينا. قال الراغب : الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل مقترنا بوعظ من قولهم : أرض واصية متصلة النبات ويقال : أوصاه ووصاه انتهى. وفي معناه إشعار بالأهمية فما كل أمر يوصى به وإنما يختار لذلك ما يهتم به الموصي ويعتني بشأنه.
فقوله : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً » أي بين وأوضح لكم من الدين وهو سنة الحياة ما قدم وعهد إلى نوح مهتما به ، واللائح من السياق أن الخطاب للنبي صلىاللهعليهوآله وأمته ، وأن المراد مما وصى به نوحا شريعة نوح (ع).
وقوله : « وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ » ظاهر المقابلة بينه وبين نوح عليهالسلام أن المراد بما أوحي إليه ما اختصت به شريعته من المعارف والأحكام ، وإنما عبر عن ذلك بالإيحاء دون التوصية لأن التوصية كما تقدم إنما تتعلق من الأمور بما يهتم به ويعتنى بشأنه خاصة وهو أهم العقائد والأعمال ، وشريعته صلىاللهعليهوآله جامعة لكل ما جل ودق محتوية على الأهم وغيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهم المناسب لحال أممهم والموافق لمبلغ استعدادهم.
والالتفات في قوله : « وَالَّذِي أَوْحَيْنا » من الغيبة إلى التكلم مع الغير للدلالة على العظمة فإن العظماء يتكلمون عنهم وعن خدمهم وأتباعهم.
وقوله : « وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » عطف على قوله : « ما وَصَّى بِهِ » والمراد به ما شرع لكل واحد منهم (ع).
والترتيب الذي بينهم عليهالسلام في الذكر على وفق ترتيب زمنهم فنوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى (ع) ، وإنما قدم ذكر النبي صلىاللهعليهوآله للتشريف والتفضيل كما في قوله تعالى : « وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى