ففي حمل العبادة على الصلوح والاستعداد اعتراف بكون الغرض من الخلق أولا وبالذات نفس العبادة ثم الصلوح والاستعداد فيعود الإشكال لو كان هناك إشكال.
فالحق أن اللام في « الْجِنَّ وَالْإِنْسَ » للجنس دون الاستغراق ، والمراد بالعبادة نفسها دون الصلوح والاستعداد ، ولو كان المراد هو الصلوح والاستعداد للعبادة لكان ذلك غرضا أدنى مطلوبا لأجل غرض أعلى هو العبادة كما أن نفس العبادة بمعنى ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام وركوع وسجود ونحوها غرض مطلوب لأجل غرض آخر هو المثول بين يدي رب العالمين بذلة العبودية وفقر المملوكية المحضة قبال العزة المطلقة والغنى المحض كما ربما استفيد من قوله تعالى : « قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ » الفرقان : ٧٧ ، حيث بدل العبادة دعاء.
فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة والعبودية وتوجيه وجهه إلى مقام ربه ، وهذا هو مراد من فسر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.
فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة وهي أن ينقطع العبد عن نفسه وعن كل شيء ويذكر ربه.
هذا ما يعطيه التدبر في قوله تعالى : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » ولعل تقديم الجن على الإنس لسبق خلقهم على خلق الإنس قال تعالى : « وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ » الحجر : ٢٧ ، والعبادة هي غرض الفعل أي كمال عائد إليه لا إلى الفاعل على ما تقدم.
ويظهر من القصر في الآية بالنفي والاستثناء أن لا عناية لله بمن لا يعبده كما يفيده أيضا قوله : « قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ».
قوله تعالى : « ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ » الإطعام إعطاء الطعام ليطعم ويؤكل قال تعالى : « وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ » الشعراء : ٧٩ ، وقال : « الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ » الإيلاف : ٤ ، فيكون ذكر الإطعام بعد الرزق من قبيل ذكر الخاص بعد العام لتعلق عناية خاصة به وهي أن التغذي أوسع حوائج الإنسان وغيره وأخسها لكونه مسبوقا بالجوع وملحوقا بالدفع.
وقيل : المراد بالرزق رزق العباد والمعنى : ما أريد منهم أن يرزقوا عبادي الذين أرزقهم وما أريد أن يطعموني نفسي.