حتى إِني حين أَعدت دَرْسه في زَبيد حرسها الله تعالى على سيّدنا الإِمام الفقيه اللغوي رضي الدين عبد الخالق بن أَبي بكر الزبيدي الحنفي متع الله بحياته ، وحضرت العلماء والطلبة ، فكان كل واحد منهم بيده نسخة.
ثم قال : ومع كثرة ما في القاموس من الجمع للنوادر والشوارد ، فقد فاته أَشياء ظفرت بها في أَثناء مطالعتي لكتب اللغة حتى هممت أَن أَجمعها في جزء مُذَيّلاً عليه.
قلت : وقد يُسِّر هذا المقصد للفقير ، فجمعت ما ظفِرت من الزوائد عليه في مُسْوَدَّة لطيفة ، سهل الله عليّ إِتمامها وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ.
المقصد التاسع
في ترجمة المؤلف
هو الإِمام الشهير أَبو طاهر محمد بن يعقوب بن محمد بن يعقوب بن إِبراهيم بن عمر بن أَبي بكر بن محمود ابن إِدريس بن فضل الله بن الشيخ أَبي إِسحاق إِبراهيم بن علي بن يوسف قاضي القضاة مجد الدين الصِّدّيقي الفيروزابادي الشيرازي اللغوي ، قال الحافظ ابنُ حجر : وكان يرفع نسبه إِلى أَبي بكر الصدّيق رضياللهعنه ، ولم يكن مدفوعاً فيما قاله. ولد بكَارِزِين (١) سنة ٧٢٩ ونشأَ بها ، وحفظ القرآن وهو ابن سبع ، وكان سريع الحِفظ بحيث إِنه يقول : لا أَنام حتى أَحفظ مائتي سطر ، وانتقل إِلى شيراز وهو ابن ثمان سنين ، وأَخذ عن والده ، وعن القوام عبد الله بن محمود وغيرهما من علماء شيراز ، وانتقل إِلى العراق ، فدخل واسط وبغداد ، وأَخذ عن قاضيها ومدرس النظامية بها الشرف عبد الله بن بكتاش ، وجال في البلاد الشرقية والشاميّة ، ودخل بلاد الروم والهند ، ودخل مصر وأَخذ عن علمائها ، ولقي الجمَّاءَ الغَفير من أَعيان الفضلاء ، وأَخذ عنهم شيئاً كثيراً بيّنه في فهرسته ، وبرع في الفنون العلمية ولا سيما اللغة ، فقد برَّز فيها وفاق الأَقران ، وجمع النظائر ، واطلع على النوادر ، وجوّد الخَط ، وتوسع في الحديث والتفسير ، وخدمه السلطان أَبو يزيد بن السلطان مراد العثماني ، وقرأَ عليه ، وأَكسبه مالاً عريضاً ، وجاهاً عظيماً ، ثم دخل زَبيد في رمضان سنة ٧٩٦ فتلقاه الملك الأَشرف إِسماعيل ، وبالغ في إِكرامه ، وصرف له أَلف دينار ، وأَمَر صاحب عدن أَن يجهزه بأَلف دينار أُخرى ، وتولى قضاءَ اليمن كلّه ، وقرأَ عليه السلطان فمن دونه ، واستمرّ بزبيد عشرين سنة ، وقدم مكّة مراراً ، وجاوَرَ بها ، وأَقام بالمدينة المنورة ، وبالطائف وعمل بها مآثر حسنة ، وما دخل بلدة إِلا أَكرمه أَهلها ومتولّيها وبالغ في تعظيمه ، مثل شاه منصور بن شاه شجاع في تبريز ، والأَشرف صاحب مصر ، وأَبي يزيد صاحب الروم ، وابن إِدريس في بغداد ، وتيمور لنك وغيرِهم ، وقد كان تيمور مع عُتوّهِ يبالغ في تعظيمه ، وأَعطاه عند اجتماعه به مائة أَلف درهم ، هكذا نقله شيخنا ، والذي رأَيته في معجم الشيخ ابن حجر المكي أَنه أَعطاه خمسة آلاف دينارٍ ، ورام مَرّةً التوجُّهَ إِلى مكة من اليمن ، فكتب إِلى السلطان يستأْذنه ويُرغّبه في الإِذن له بِكتاب من فصولِه ـ وكانَ مِنْ عادَة الخُلفاءِ سلفاً وخلفاً أَنهم كانوا يُبْرِدُون البريدَ بقصْدِ تبليغِ سلامهم إِلى حضرة سيّد المرسلين ـ : فاجعَلْني ـ جَعلني الله فداك ـ ذلك البريد ، فإِني لا أَشتهي شيئاً سواه ولا أُريد.
فكتب إِليه السلطان.
إِن هذا شيءٌ لا ينطق به لساني ، ولا يجري به قلبي ، فبالله عليك إِلا ما وَهَبْتَ لنا هذا العُمر ، واللهِ يا مجدَ الدين يميناً بارّة ، إِني أَرى فِراقَ الدنيا ونعيمها ولا فراقَك أَنت اليمن وأَهله.
وكان السلطان الأَشرف قد تزوّج ابنته ، وكانت رائعة في الجمال ، فنال بذلك منه زيادة البِرّ والرِّفعه ، بحيث إِنه صنف له كتاباً وأَهداه له على طِبَاق ، فملأها له دراهم.
كان واسع الرِّواية ، سمع من محمد بن يوسف الزرندي المدني صحيح البخاري ، ومن ابن الخبّاز ، وابن القيم ، وابن الحموي ، وأَحمد بن عبد الرحمن المرداوي ، وأَحمد بن مظفّر النابلسي ، والتقي السبكي ، وولده التاج ، ويحيى بن علي الحدّاد وغيرهم بدمشق ، وفي القدس من العلائي ، والبياني ، وابن القلانسي ، وغضنفر ، وابن نباتة ، والفارقي ، والعزّ بن جماعة ، وبكر بن خليل المالكي ، والصفي الحراوي ، وابن جهبل ، وغيرهم ، وله التصانيف
__________________
(١) في المطبوعة المصرية «كازرين» تحريف. انظر معجم البلدان وفيه كارزين بلد بفارس.