بادت أو تمّ تخطيها ، وعن تجارب معرفية ووجدانية فقدت تأثيرها ، حلقة وصل ضرورية في حياة اللغة ، ومرحلة تواصل ذهني مع ما هو قابع وأداة فهم استقطابا للجديد بخيط دلالي يصل الماضي بالحاضر ، لا تنفك العربية عنه.
حقول دلالة العربية :
إنّ العربية بمفرداتها والأسماء عبّرت عن جملة معطيات ومعان ، فقد كانت أداة للتعبير عن العرفان في كل معطاه الوجداني والعاطفي واللاواعي ، بمثل ما كانت أداة فهم للاحساس الفطري الأول في حياة الناطقين بها. ومن ثمّ انتقلت لتشكّل اشارات وحروفا للفكر والتجريد ، فاستعدّت لاستقبال معاني الغير. وهنا في خضم إعمال العقل والفهم وتلقّي المجردات من الخارج انسكبت كل تلك المعاني في قوالب اللغة بعد تلقيها في الأذهان وانطباعها بها ، وبالتالي تمّ اتسامها ـ تصورات الغير ـ بطبع العربية أيضا وبنيتها ، هذه العربية في مبناها لا تنفك عن ذهنية صانعيها وناطقيها.
وهكذا تنجدل الأمور برباط معقّد متفاعل بين ما في الأذهان وما في اللسان انطلاقا مما في الأصوات والأعيان.
ولا بدّ من تمييز الذهن عن العقل ، فالذهن في اللسن : «الفهم والعقل ... وحفظ القلب» (١). إذا هو يجمع عملية الفهم والتفكير والقلب ، أي الوجدان وما هو قابع في النفس بحسب المعطيات النفسية الحديثة ، لذا كان العقل تبعا لدلالة العربية : الجمع للأمر والرأي ، والربط والتثبّت من الأمور. وكان الذهن أوسع نطاقا من هذا ، وهنا نتلاقى مع التمييز الفرنسي التقليدي بين العقل المكوّن الفاعل la raison constituante وبين العقل المكوّن المنفعل المشيّد السائد la raison constituee. الأول يمثّل النشاط المخي الذي يقوم به الفكر بالربط والجمع ، حيث يستخرج الانسان تصورات من ادراك العلاقات بين الأشياء. أما الثاني فهو مجموع المبادئ والقواعد المعتمدة في التفكير أو الاستدلال (٢). هذه القواعد تتأتّى من خارج فعل الفرد وفردية نشاط مخه.
لهذا هي أقرب لمعنى الذهن أي العقل المكوّن المشيّد الذي يمارس دوره كاستعداد للادراك ، أي إنّه محل المدركات. وهنا يتلاقى مع معنى Mentalite بوجهته النفسية في بعض المناحي.
__________________
(١) ابن منظور ، لسان العرب ، مادة ذهن.
(٢) ١٩٦٨.P. ٨٨٣ Lalande. A. Vocabulaire technique et critique de la philosophie. Paris. P. U. F.