« وليس الشأن في إيراد المعاني ، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي ، وإنما هو جودة اللفظ وصفائه ، وحسنه وبهائه ، ونزاهته ونقائه ، وكثرة طلاوته ومائه ، مع صحة السبك والتركيب ، والخلو من أود النظم والتأليف » (١).
فالعسكري معني بالهيكل وأناقته ، ومفتتن بالألفاظ وإطارها باعتبارها الوسائل التي يتفاضل بحسن اختيارها الأدباء ، وهو يحكي ما قرره الجاحظ ويتناوله بالكشف والإيضاح ، ولا جديد عنده عليه ، فهما إذن يصدران عن قاعدة واحدة تشكل هذا الرأي الخاص ، ولعل مرد هذا الرأي في تعصبهما الظاهر للفظ إنما يرجع إلى دوافع نفسية وسياسية وعصبية قبلية ، وإن صح هذا فهذه الدوافع لا تشكل حكماً علمياً مجرداً ، ولنقف عندها قليلاً :
أ ـ الدافع النفسي : لا شك أن اللفظ الرقيق ، والجرس الناغم ، والتركيب الناصع ، مظاهر تسيطر على النفوس فتنجذب نحوها انجذاباً ، وجزالة الأسلوب تهيمن على القلوب فتبهر بها وتنساق إليها ، سيراً وراء هذا المظهر البراق ، ولعل الجاحظ والعسكري قد افتتنا بهذا فسيطر عليهما نفسياً ، حتى عاد ذلك قناعة ورأياً ، فكانت أراؤهما تعبيراً عما يعتقدان.
ب ـ الدافع السياسي : كانت السلطة الزمنية في الفترة ما بين عصري الجاحظ والعسكري فترة مزدهرة بالترجمة والتأليف والكتابة وصولة البيان ، وكان الخط السياسي معنياً بتقييم الكتاب ، فعليهم تقوم أركان الدولة ، وبهم ينهض مجد الحكم ، ومنهم يخرج عطاء الناس ، وبهم تتفاخر الأمراء والوزراء والولاة ، والكتاب إنما يتميزون بالأداة الصالحة والمهارة الفنية ، وهما يستقيمان باللفظ والتحكم فيه ، وإخضاع تلك المهارة لأغراض الدولة ومتطلبات السلطان ، وليست أغراض الدولة أغراضاً علمية فتحتاج إلى عميق المعاني وموضوعية البيان ، وإنما هي أغراض سياسية تحققها قعقعة الألفاظ وزبرجة الهياكل ، فإذا أضفنا إلى هذا مكانة الجاحظ وشخصية العسكري وما يقتضي مركزهما من التريث والتدبر حفاظاً على النفس ، وقضاء للمصالح ، فما المانع أن يندفعا هذا الاندفاع إرضاء لأولئك
__________________
(١) المصدر نفسه : ٦٣ ـ ٦٤.