وإذا وافقنا ابن قتيبة في تقرير الموضوع الأصل وهو سليم جداً ، فإننا نخالفه في طبيعة فهمه ، وتطبيق الحكم على النماذج التي أختارها دليلاً على صحة دعواه. ولا سيما في الضرب الثاني الذي حسن لفظه وقصر معناه ، فإنه يستشهد بهذه الأبيات (١).
ولما قضينا من منى كل حاجة |
|
ومسـح بالاركـان مـن هو ماسـح |
وشدت علـى حـدب المهاري |
|
رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح |
أخـذنا بأطــراف الأحـاديث |
|
بينا وسالت بأعنـاق المطي الأباطـح |
ثم يعقب عليها ناقداً ومعلقاً بقوله « هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع ، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته : ولما قطعنا أيام متى ، واستلمنا الاركان ، وعالينا إبلنا الانضاء ، ومضى الناس لا ينتظر الغادي منهم الرائح ، ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح (٢).
فابن قتيبة ببساطة يحكم على سذاجة المعنى ، ويدعي في الألفاظ سلس العبارة ، وجودة المخارج ، وحسن المقاطع ، ولكنني ألمس مخالفته في الموضعين :
أ ـ اعتبر الألفاظ في سياقها جيدة المخارج والمقاطع والمطالع ، وقد يكون بعضهما كما رأى ، ولكن أقل ما قبح البعض الآخر مجتمعاً توالي حروف الحلق في حاءاتها وهاءاتها والعين والغين مما يمنع تقاطرها في النطق وانصبابها في التحدث إلا بتكلف ، وهي على وجه الضبط : حاجة ، ومسح ، هو ، ماسح ، على ، حدب ، المهارى ، رحالنا ، الغادي ، هو ، رائح ، الأحاديث ، أعناق ، الأباطح ، فما رأيك في أبيات عدة ألفاظها ثلاثون لفظاً اشتمل منها أربعة عشر لفظاً على حروف مخرجها واحد لا يتعداه وهو الحلق
__________________
(١) تنسب الأبيات إلى كثير غزة كما في الديوان : ٥٢٥ ، وقيل لابن الطثرية وقيل للمضرب كما في معاهد التنصيص : ٢٤١. وتنسب للمضرب وحده كما في أمالي المرتضى : ١/٤٥٨ ، وإلى هؤلاء وغيرهم كما في تخريج هامش أسرار البلاغة : ٢١ ، رقم ٢٥.
(٢) ابن قتيبة ، الشعر والشعراء : ٨.