والانس إلا ليعبدون » (٣٨).
فالعبادة معناها كلفظها مشتقّة من العبودية ، وهي شأن من شؤونها وأثر من آثارها ، فإن العبودية قضت على العبد حفظاً لاستدامة تلك النعمة ، بل النعم الجمّة وامتدادها أبدياً أن يقف العبد موقف الإذعان والاعتراف بها لوليّها ومولاها ، فكما أنّه في موطن الحقّ والواقع عدماً صرفاً وعجزاً محضاً ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ؛ ولا موتاً ولا حياة ، كذلك يكون في موطن الخارج والظاهر ماثلاً بين يدي مولاه في غاية الخضوع والذلّة ، والعجز والحاجة.
فالعبادة حقيقة هي التظاهر بتلك العبودية الحقيقية باستعمال اقصى مراتب الخضوع في الظاهر بجميع القوى والمشاعر مقروناً باستحضار تلك الجوهرة المكتنونة ، والدرّة الثمينة ـ جوهرة العبودية ـ وأني اخضع وأخشع ، وأسجد وأعبد ، ذلك المنعم الذي انعم عليًّ بنعمة الحياة ، وأسبغ عليًّ جلابيب الوجود ، فصرت بتلك النعم مغموراً ؛ بعد أن أتى عليَّ حين من الدهر لم أكن فيه شيئاً مذكوراً.
اذاً فالعبادة على الحقيقة هي كون العبد في مقام الاعتراف والإذعان بالعبودية مقروناً بما يليق بها من استعمال ما يدلّ على اقصى مراتب الخضوع ، والذلّة بالسجود والركوع ، والهرولة والطواف ، وغير ذلك ممّا وصفته الشرائع ، وأوعزت إليه الأديان من معلوم الحكمة ومجهولها ، ومبهم الحقيقة أو معقولها.
تلك هي العبادة الحقيقية ، غايته أنّ عامّة الناس قصرت أفكارهم عن اجتناء ذلك اللبّ واقتصروا على القشور من العبادة ، اللّهمّ إلاّ أن يكون ذلك مرتكزاً في اعماق نفوسهم على الإجمال في المقصود ، دون التفصيل والاستحضار والشهود ، وكيف كان الحال ، فهل تحسّ أنّ أحداً من زوّار القبور والمتوسّلين بأربابها يقصد أنّ القبر الذي يطوف حوله ، أو صاحبه الملحود فيه هو صانعه وخالقه ، وأنّه بزيارته يريد أن يتظاهر بالعبوديّة له فتكون عبادة له؟! أو أنّ أحداً من الزائرين يقول للقبر ـ أو لمن فيه ـ : يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي؟!