أحدهما بالفعل ، مجازه : وسخرنا له الطير ، مثل قولك : (أطعمته طعاما وماء) تريد : وسقيته ماء ، والوجه الآخر النداء كقولك : يا عمرو والصلت أقبلا ، نصبت الصلت ؛ لأنه إنما يدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته ، فنصب ، وقيل : مع الطير ، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب.
وروي عن يعقوب بالرفع ؛ ردا على الجبال أي (أَوِّبِي مَعَهُ) أنت والطيرُ ، كقول الشاعر :
ألا يا عمرو والضحاك سيرا |
|
فقد جاوزتما خمر الطريق (١) |
يجوز نصب الضحاك ورفعه.
قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد ، وكان سبب ذلك على ما روي في الأخبار أن داود عليهالسلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا ، فإذا رأى رجلا لا يعرفه ، تقدم إليه يسأله عن داود ، فيقول له : «ما تقول في داود وإليكم هذا ؛ أي رجل هو؟» فيثنون عليه ويقولون : خيرا فينا هو.
فبينا هو في ذلك يوما من الأيام إذ قيّض الله ملكا في صورة آدمي ، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله ، فقال له الملك : نعم الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داود ذلك وقال : «ما هي يا عبد الله؟» قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال : فتنبه لذلك ، وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع ، وعلمه صنعة الدروع ، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها.
فيقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف ، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ، ويقال أيضا : إنما ألان الحديد في يده لما أعطي من القوّة.
(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) دروعا كوامل واسعات (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) ، أي لا تجعل المسامير دقاقا فتغلق ولا غلاظا فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك : وهو أول من اتخذ الدروع ، وكانت قبل ذلك صفائح ، والسرد : صنعة الدرع ، ومنه قيل لصانعها : السراد والزراد والدرع المسرودة ، قال أبو ذويب :
وعليهما مسرودتان قضاهما |
|
داود أو صنع السوابغ تبّع |
وأصله الوصل والنظم ، ومنه قيل للخرز : سرد وللأشفى مسرد وسراد. قال الشماخ :
كما تابعت سرد العنان الخوارز
__________________
(١) جامع البيان للطبري : ٢٢ / ٨١.