فقال : يا نبي الله إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّبا مما كنت أسمع وأرى في طريقي. فقال سليمان : «وما ذاك؟».
قال : اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها ، فسقى البغلة وملأ الجرة ، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها ، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة (١).
ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له ، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله ، فضحكت من غفلته وجهله.
ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء ، وقد كنت عهدت رجلا دفن في موضع فراشها ذهبا كثيرا في الدهور الخالية ، فرأيتها تموت جوعا وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه ، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها.
ومررت برجل في بعض المدن ، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه ، فصار يتطبّب للناس ، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلّا أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء ، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ ، فضحكت منه.
ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلا ، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزنا فضحكت من ذلك.
ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى الله تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة ، فملّ منهم قوم وقاموا ، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم ، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس ، وغشيت الذين جاءوا فجلسوا ، فضحكت ؛ تعجبا للقضاء والقدر.
قالوا : فقال سليمان له : هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئا تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت؟ فقال : نعم يا نبي الله ، أعرف حجرا أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه ، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب. فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة ، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى ينقبه به ليصل إلى فراخه.
قال : فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوما وليلة ، ثم سرح العقاب دون الفراخ ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة ، وثقب به الصندوق حتى
__________________
(١) تاريخ الطبري : ٥ / ١٣٦.