(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل ، ومن قرية إلى قرية ، لا ينزلون إلّا في قرية ، ولا يغدون إلّا في قرية ، وقلنا لهم : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً) وقت شئتم (آمِنِينَ) : لا تخافون عدوّا ولا جوعا ولا عطشا ، ولا تحتاجون إلى زاد ولا ماء ، فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العافية وقالوا : لو كان جني جناننا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه.
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) : فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ، ونتزود الأزواد. فجعل الله لهم الإجابة ، واختلف القراء في هذه الآية ؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : (ربنا بعّد) ، على وجه الدعاء والسؤال من (التبعيد) ، وهي رواية هشام عن قرّاء الشام ، وقرأ ابن الحنفية ويعقوب : رَبُّنا ـ برفع الباء ـ باعَدَ ـ بفتح الباء والعين والدال ـ على الخبر ، وهي اختيار أبي حاتم ، استبعدوا أسفارهم بطرا منهم وأشرا ، وقرأ الباقون : (رَبَّنا) بفتح الباء ، (باعِدْ) بالألف وكسر العين وجزم الدال ـ على الدعاء ، ففعل الله ذلك بهم ، فقال : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والبطر والطغيان ، (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) : عظة وعبرة يتمثل بهم ، (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، قال الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان.
وقال ابن إسحاق : يزعمون أنّ عمران بن عامر وهو عم القوم ـ كان كاهنا فرأى في كهانته أنّ قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم ، فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا همّ بعيد وحمل شديد ومزاد جديد فليلحق بكأس أو كرود ، قال : فكان وادعة بن عمرو.
ومن كان منكم يريد عيشا هانئا وحرما آمنا فليلحق بالأردن فكانت خزاعة ، ومن كان منكم يريد الراسيات في الرجل والمطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل ، فكان الأوس والخزرج ، ومن كان منكم يريد خمرا وخميرا وذهبا وحريرا وملكا وتأميرا ، فليلحق بكوثى وبصرى ، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ، ومن كان منهم بالعراق.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قال مطرف : هو المؤمن الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر.
قوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) ، قرأ أهل الكوفة : بتشديد الدال وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد ، أي ظن فيهم ظنا حيث قال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١) ، وقال : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٢) ، فصدّق ظنه وحقّقه لفعله ذلك بهم واتّباعهم إياه ، وقرأ الآخرون : صدق بالتخفيف أي صدق عليهم في ظنه بهم.
__________________
(١) سورة ص : ٨٢.
(٢) سورة الأعراف : ١٧.