وإن «نهج البلاغة» ليضم ـ إلى جانب الموضوعات السابقة ـ طائفة من خطب الوصف تبوىء عليا ذروة لا تسامى بين عباقرة الوصّافين في القديم والحديث. ذلك بأن عليا ـ كما تنطق نصوص «النهج» ـ قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة. ولم تكد خطبة من خطبه تخلو من وصف دقيق ، وتحليل نفاذ إلى بواطن الأمور : صور الحياة فأبدع ، وشخص الموت فأجزع ، ورسم لمشاهد الآخرة لوحات كاملات فأراع وأرهب ، ووازن بين طبائع الرجال وأخلاق النساء ، وقد للمنافقين «نماذج» شاخصة وللأبرار أنماطا حية ولم يفلت من ريشته المصورة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس ، ولا ملك رحيم يوحي الخبر ويلهم الرشاد.
على أن المهم في أدب الإمام عليهالسلام تصويره الحسيات ، وتدقيقه في تناول الجزئيات : وقد اشتمل كلامه على أوصاف عجيبة لبعض المخلوقات حملت روعتها ودقة تصويرها بعض النقاد على الارتياب في عزوها إلى أمير المؤمنين ، كما في تصويره البارع للنملة والجرادة ولا سيما للطاووس. ولا بد من تحقيق هذا الأمر في غير هذه المقدمة العجلي ، وهو ما نسأل الله التوفيق لبيانه في كتاب مستقل اكتملت بين أيدينا معالمه ، وسنصدره قريبا بعون الله.
أما النملة فقد وصف منها صغرها وحقارة أمرها ، مشيدا بدقتها وحسن تصرفها ، مسترسلا مع وصفه بأنفاسه الطوال ، وأنغامه العذاب ، وأخيلته الحصاب : إن النملة في صغر جستها ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، وإنها تدب على الأرض دبيبا ، تنصب على الرزق انصبابا ، وتنقل الحب إلى جحرها ، جامعة في حرها لبردها ، وفي وردها لصدرها ، ولا يفوت عليا أن يصف لنا من النملة شراسيفها وغضاريفها وأطراف أضلاعها المشرفة على بطنها ، وما في رأسها من عينها وأذنها ، ثم يسوقنا إلى التفكير بعظمة الحالق الذي خلقها ، ولم يعنه على خلقها قادر ، وفطرها ولم يشركه في فطرتها فاطر!
وأما الجرادة الإمام دقيق أجزائها ، ورهيف حواسها ، وجامع نزواتها ، ويتمهل وهو يصف حمرة عينيها ، وضياء حدقتيها ، وخفاء سمعها ، واستواء فمها ، وقوة حسها.ويتوقف قليلا عند نابيها اللذين بهما تفرض ، ومنجليها اللذين بهما تفيض ، ويعجب