الحياة الدنيا ، والتذكير بالموت هادم اللذات ومفرق الجماعات ، ووصف أهوال القيامة والبعث والنشور ، والترغيب في الجنة والترهيب من النار.
إن الإمام ليحذر من الفتن التي تدوس بأخفافها ، وتطأ بأظلافها ، وتقوم على سنابكها ، وإنه ليدعو الناس إلى شق أمواج هذه الفتن بسفن النجاة ، والتعريج عن طريق المنافرة ، ووضع تيجان المفاخرة.
أما الدنيا فغرارة ضرارة ، حائلة زائلة ، نافدة بائدة ، أكالة غوالة ، لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلا أرهقته من نوائبها تعيا ، ولا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف. إنها غرور حائل ، وضوء آفل. وظل زائل ، وسناه مائل. فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة؟ وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه ، ويبقى عليه تبعته وحسابه؟
فلينظر الناس إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها ، الصادفين عنها ، ولا يغرنهم كثرة ما يعجبهم فيها لقلة ما يصحبهم منها ، وليذكروا دائما أن الدهر موتر قوسه ، لا تخطىء سهامه ، ولا تؤسى جراحه ، يرمي الحي بالموت ، والصحيح بالسقم ، والناجي بالعطب.
وليمنع الناس من اللعب ذكر الموت ، فهذا عائد يعود ، وآخر بنفسه يجود. ولتصيرن الأجساد شحبة بعد بضّتها ، والعظام نخرة بعد قوتها ، والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها ، موقتة بغيب أنبائها.
ولقد كان للناس في رسول الله أسوة حسنة : عرضت عليه الدنيا فأبي أن يقبلها ، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه ، وحقر شيئا فحقره. وللناس في علي أسوة حسنة أيضا : رفع مدرعته حتى استحيا من واقعها. ولما سأله سائل : ألا تنبذها عنك؟ أجابه : «اعزب عني ، فعند الصباح يحمد القوم السّرى»!
وإن عليا كرم الله وجهه لا يرى كالنار نام هاربها ، ولا كالجنة نام طالبها ، «حتى إذا انصرف المشيع ، ورجع المتفجع ، أقعد في حقرته نجيا لبهته السؤال وعثرة الامتحان. وأعظم ما هنالك نزول الحميم ، وتصلية الجحيم ، وفورات السعير ، وسورات الزفير»!
ومن أطرف ما جادت به قريحة الإمام خطبه في بدء الخلق ، وأوضحها في هذا الباب