آخر. قلت : فترين أن تغنيه لعلي أفهمه؟ قالت : ليس هذا وقته وهو من آخر ما أتغنى به. وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالا لها وإعظاما ، فلما أمسينا ، وصلّينا المغرب ، وجاءت العشاء الآخرة وضعت القضيب ، وقمت فصليت العشاء ، ولا أدري كم صليت عجلة وتشوّقا ، فلما سلمت ، قلت : تأذنين جعلت فداك في الدنو منك؟ قالت : تجرّد ، وذهبت كأنها تريد أن تخلع ثيابها ، فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها ، فتجردت وقمت بين يديها ، فقالت : إمش إلى زوايا البيت ، وأقبل حتى أراك مقبلا ومدبرا ، وإذا في الغرفة حصير عليها طريق ، وإذا تحته خرق إلى السوق ، فإذا أنا في السوق قائما مجرّدا ، وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدّا نعالهما ، وكمنا لي في ناحية ، فلما هبطت عليهما بادراني ، فقطعا نعالهما على قفاي ، واستعانا بأهل السوق ، فضربت والله حتى أنسيت اسمي ، فبينا أنا أخبط بنعال مخصوفة ، وأيد ثقال ، وخشب دقاق وغلاظ ، إذا صوتها من فوق البيت :
ولو علم المجرّد ما أردنا |
|
لبادرنا المجرّد في الصّحاري |
قلت في نفسي : هذا والله وقت غناء هذا البيت ، وهو من آخر ما قالت إنها تغني ، فلما كادت نفسي تطفأ جاءني بخلق إزار فألقاه علي ، وقال : بادر ثكلتك أمك قبل أن ينذر بك السلطان ، فتفتضح ، فكان آخر العهد بها ، فإذا والله أنا المجرّد ، وأنا لا أدري ، فانصرفت إلى رحلي مصحونا (١) مرضوضا ، فلما أردت الخروج عن مكة جعلت زقاق العطّارين طريقي ، فدنوت من تابع وأنا متنكر ، وبدني مرضوض ، فقلت : لمن هذه الدار؟ قالوا : لفلانة جارية من آل فلان (٢).
__________________
(١) أي مضروبا. صحنه ، أي : ضربه.
(٢) في العقد (من آل أبي لهب). وتقدّم أنه دخل دار المرأة المخزومية مما يفيد اضطراب القصة ، وأنّ ـ ـ