الصباح أبصرنا أمامنا جبل النار ، وهو جبل البركان المشهور بصقلية ، فاستبشرنا بذلك ، والله تعالى يعظم أجورنا على ما كابدناه ، ويختم لنا بأجمل الصنع وأسناه ، ويوزعنا في كل حال شكر ما أولاه ، بمنه وكرمه.
ثم حركتنا من ذلك الموضع ريح موافقة ، فلما كان عشي يوم السبت ثاني الشهر المذكور اشتد هبوبها فزجت المركب تزجية سريعة ، فلم يكن إلا كلا ولا حتى أدتنا إلى أول المضيق والليل قد جن. وهذا المضيق ينحصر فيه البحر مقدار ستة أميال ، وأضيق موضع فيه ثلاثة أميال يعترض من بر الأرض الكبيرة إلى بر جزيرة صقلية ، والبحر بهذا المضيق ينصب انصباب السيل العرم ، ويغلي غليان المرجل ، لشدة انحصاره وانضغاطه ، وشقه صعب على المراكب. فاستمر مركبنا في سيره ، والريح الجنوبية تسوقه سوقا عنيفا ، وبر الأرض الكبيرة عن يميننا ، وبر صقلية عن يسارنا.
جنوح المركب وتحطمه
فلما كان مع نصف ليلة الأحد الثالث للشهر المبارك ، وقد شارفنا مدينة مسينة من الجزيرة المذكورة ، دهمتنا زعقات البحريين بأن المركب قد أمالته الريح بقوتها إلى أحد البرين وهو ضارب فيه ، فأمر رئيسهم بحط الشرع للحين ، فلم ينحط شراع الصاري المعروف بالأردمون ، وعالجوه فلم يقدروا عليه لشدة ذهاب الريح به ، فلما أعياهم مزقه الرائس بالسكين قطعا قطعا طمعا في توقيفه ، وفي أثناء هذه المحاولة سنح المركب بكلكله على البر ، والتقاه بسكانيه ، وهما رجلاه اللتان يصرف بهما ، وقامت الصيحة الهائلة في المركب ، فجاءت الطامة الكبرى ، والصدعة التي لم نطق لها جبرا ، والقارعة الصماء التي لم تدع لنا صبرا ، والتدم النصارى التداما ، واستسلم المسلمون لقضاء ربهم استسلاما ، ولم يجدوا سوى حبل الرجاء استمساكا واعتصاما. وتعاورت الريح والأمواج صفح المركب حتى تكسرت رجله الواحدة فألقى الرائس مرسى من مراسيه طمعا في تمسكه به ، فلم يغن شيئا ، فقطع حبله وتركه في البحر.
فلما تحققنا أنها هي قمنا فشددنا للموت حيازيمنا ، وأمضينا على الصبر الجميل