إلى تغيير العادات والتقاليد الموروثة مما يقتضي جهداً مضاعفاً ، وعملاً مرناً في معالجة الموضوع ، فكان التدرج في التحريم وسيلة لذلك.
وهناك عامل مهم يرتبط بالمناخ الاقتصادي لقريش ، فلقريش رحلتان مهمتان للتجارة صيفاً وشتاءً ، وكان الخمر إحدى مفردات هذه التجارة ، فهو مرتبط بأرزاق القوم إرتباطاً وثيقاً ، وكل أمر يصطدم بالرزق يستدعي الرفض والمجابهة ، قال تعالىٰ : ( لإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (٤) ) (١).
لذلك كان التدرج في التحريم ضرورةً تقتضيه مرحلية هذا المناخ ، فكان التحريم متدرجاً من الشديد إلى الأشد.
وقد ظهر ممّا تقدم حرمة الخمر حرمة تشريعية قد بدأت في مكة حينما حرم الاثم في آية الأعراف. وفي آية النحل وهي مكية أيضاً إيماء إلى أن السَكَر ليس من الرزق الحسن ، إذ هي لا تتضمن حكماً تكليفياً بل هي في مقام تعداد ما يتخذ من مشتقات النخيل والأعناب طيباً أو غير طيّب ، حسناً أو غير حسن ، سواء أكان ذلك المتخذ من الطيبات أو من الخبائث.
وفي آية البقرة ـ وهي أول سورة مدنية ـ ظهر أن في الخمر إثماً ، وأن إثمه أكبر من نفعه ، وأن التشديد في أداء الصلاة بطهارة نفسية وروحية متكاملة يقتضي الاستمرار في عدم تناول المسكر كما في آية النساء : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) (٢).
وفيها إشارة إلى أن بعض المسلمين لم يكونوا قد إنتهوا من شرب الخمر ، فهم يعاقرونها مع أدائهم الصلاة.
وقد إنتهىٰ هذا الأمر بالتشديد في التحريم مع التوبيخ والزجر والتعنيف في آيتي المائدة.
__________________
(١) قريش ، الايلاف : ١ ـ ٤.
(٢) النساء : ٤٣.