وانقياده ليكون الأمر إليهم ، فاتفق رأي أرباب الدولة على تقليد المستعصم بالله الخلافة بعد أبيه ، فتقلدها واستبدوا بالتدبير ، ثم ركن إلى وزيره مؤيد الدين بن العلقمي ، فأهلك الحرث والنسل ، وحسن له جمع الأموال والاقتصار على بعض العساكر ، وقطع الباقين ، فوافقه على ذلك ، وكان فيه شح وحب لجمع المال ، فوافق ما أشار به الوزير وغيره عليه من ذلك ما في نفسه ، فأجابهم ، وبذل الوزير جهده في بوار الإسلام ، فبلغ قصده كما ذكرنا ، وكان المستعصم بالله قليل المعرفة والتدبير ، والتيقظ ، نازل الهمة محبا لجمع المال ، مهملا للأمور ، يتكل فيها على غيره ، ويقدم على فعل ما يستقبح ، ولا يناسب منصبه ، ولو لم يكن من ذلك إلّا ما فعله مع الملك الناصر داود في أمر الوديعة ، لكفاه ذلك عارا وشنارا ، حتى لو كان الملك الناصر من بعض الشعراء ، وقد قصده وتردد إليه على بعد المسافة وامتدحه بعدة قصائد ، وكان يتعين عليه أن ينعم عليه بقريب من قيمة وديعته من ماله ، فقد كان في أجداد المستعصم بالله من استفاد منه آحاد الشعراء أكثر من ذلك إلى غير ذلك من الأمور التي كانت تصدر عنه مما لا يناسب منصب الخلافة ، ولم تتخلق بها الخلفاء قبله ، فكانت هذه الأسباب كلها مقدمات لما أراد الله تعالى بالخليفة والعراق ، وأهله ، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه.
ومن الاتفاقات العجيبة أن أول الخلفاء من آل أبي سفيان اسمه معاوية ، وآخرهم معاوية ، وأول الخلفاء من آل الحكم ابن أبي العاص اسمه مروان ، وآخرهم مروان ، والخلفاء العلويين بالغرب والديار المصرية اسمه عبد الله ، وآخرهم اسمه عبد الله وأول الخلفاء من بني العباس عبد الله السفاح ، وآخرهم عبد الله المستعصم بالله ، وعددهم سبعة وثلاثون خليفة ، ومدة ملكهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة ، منذ بويع السفاح بالخلافة إلى هذه السنة ، فسبحان من لا يزول ملكه ، ولا يحول سلطانه.