ثم وصلت إلى مدينة طرابلس (٦١) وهي إحدى قواعد الشام ، وبلدانها الضخام ، تخترقها الأنهار ، وتحفّها البساتين والأشجار ، ويكنفها البحر بمرافقه العميمة والبر بخيراته المقيمة ، ولها الأسواق العجيبة ، والمسارح الخصيبة والبحر على ميلين منها وهي حديثة البناء.
وأما طرابلس القديمة فكانت على ضفة البحر وتملّكها الروم زمانا ، فلما استرجعها الملك الظاهر خربت ، واتخذت هذه الحديثة ، وبهذه المدينة نحو أربعين من أمراء الأتراك ، وأميرها طيلان(٦٢) الحاجب المعروف بملك الأمراء ، ومسكنه منها بالدار المعروفة بدار السّعادة ، ومن عوائده أن يركب في كل يوم اثنين وخميس ، ويركب معه الأمراء والعساكر ويخرج إلى ظاهر المدينة فإذا عاد إليها وقارب الوصول إلى منزله ترجل الأمراء ونزلوا عن دوابهم ومشوا بين يديه حتى يدخل منزله ، وينصرفون (٦٣) وتضرب الطّبلخانة عند دار كل أمير منهم بعد صلاة المغرب من كل يوم ، وتوقد المشاعل. وممن كان بها من الأعلام كاتب السر بهاء الدين ابن غانم (٦٤) أحد الفضلاء الحسباء ، معروف بالسخاء والكرم ، وأخوه حسام الدين هو شيخ القدس الشريف ، وقد ذكرناه(٦٥) ، وأخوهما علاء الدين (٦٦) كاتب السر بدمشق.
__________________
(٦١) بعد أن ظلّت طرابلس طوال مائة وثمانين سنة بيد الصليبيين استرجعت عام ٧٩١ ـ ١٢٨٩ من طرف العاهل المصري الملك الأشرف خليل ٧٩٢ ـ ٧٩٥ ـ ١٢٩٠ ـ ١٢٩٣ أخي الملك الناصر ، ومن هنا نقول : إنه من الخطأ أن ينسب للملك الظاهر بيبرس سائر الانتصارات التي تحققت أواخر القرن الثالث عشر ... هذا وبما أن بيروت عاصمة لأحد الأقاليم الستّة لسوريا فقد أعيد بناؤها بعد فتحها ...
(٦٢) طيلان الأشرفي (وصوابه طينال) سيف الدين المدعو الحاجب كان حاكما لطرابلس عام ٧٢٦ ـ ١٣٢٦ ثم نقل إلى غزة في سنة ٧٣٣ ـ ١٣٣٢ ، كان إذا احتاج إلى مكاتبة السلطان أرسل مطالعته مفتوحة ليقف عليها رئيسه تنكز قبل أن تصل للسلطان! وقد أدركه أجله في صفد ، ربيع الأول ٧٤٣ غشت ١٣٤٢. ـ الدرر ٢ ، ٣٣٤.
(٦٣) هذه تمهيدات للحفلات التي تقام من لدن الحكام في مجالسهم القضائية ـ الطبلخانة : تتألف من الطبول والأبواق والمزامير.
(٦٤) هو أبو بكر بن محمد بن سليمان بن حمائل الدمشقي ، بهاء الدّين ، بن الشيخ شمس الدّين بن غانم ، كتب الانشاء بطرابلس ثم بدمشق ثم بصفد أدركه أجله بطرابلس. ـ ابن حجر : الدرر : ج I ص ـ ٤٩١ ٤٩٠.
(٦٥) يلاحظ أن حسام الدين هذا ـ وقد توفي في شعبان عام ٧٢٩ ـ ١٣٢٩ ـ لم يكن أخا لبهاء الدين ولم يتقدم ذكره في الفقرات الخاصة بالقدس ، بل هو سليمان بن الحسن بن الشيخ غانم المقدسي شيخ البيت المقدس. ـ الدرر الكامنة ٢ ص ٣٤٠.
(٦٦) علاء الدين هذا هو أخ للأول ولد عام ٦٥١ ـ ١٢٥٣ ، وأدركه أجله عام (٧٣٦ ـ ١٣٣٦) قال الصفدي : كتب في ديوان الانشاء وعرضت عليه كتابة السر في حلب فامتنع وله نظم ونثر وأعمال جيدة في الآداب ومكاتبات ومراجعات مع فضلاء عصره ، وكان رئيسا كبيرا. كثير القضاء لحوائج الناس حتى كان صدر الدين ابن الوكيل يقول : ما أعرف أحدا في الشّام إلا ولعلاء الدين ابن غانم في عنقه مأنة! الدرر الكامنة ٣ ، ١٧٨.