من حوافز التّفكير في هذا النشر الجديد ...
لقد كان في صدر ما دفعنا لمراجعة الرحلة البحث عن مدى صحة المقولة التي تذكر أنّ الرحلة الموجودة بين أيدينا إن هي إلا" تلخيص" على حد تعبير ابن جزي نفسه ، تلخيص من" تقييد" صاحب الرحلة ... وأن هناك أثرا للنص الكامل لذلك التقييد الأصلي ...
وقد دعتنا للبحث حول هذا الموضوع فقرات وردت عند بعض الذين تحدثوا عن ابن بطوطة ، نقلوها على أنها من أخباره في الرحلة ...
وقد كان في صدر هؤلاء لسان الدين بن الخطيب ٧٧٦ ـ ١٣٧٤ الذي نقل عن شيخه أبي البركات البلفيقي" أن ابن بطوطة أخبر أنه دخل الكنيسة العظمى بالقسطنطينية ، وهي على قدر مدينة مسقفة كلّها ، وفيها اثنا عشر ألف أسقف ..." (١)
هذا إلى فقرات نقلها أبو الحسن علي التمجروتي عن مدينة قابس في رحلته (٩٩٧ ـ ١٥٨٩) وأنها كذا وكذا ، ثم إلى فقرات ساقها أبو القاسم الزّياني تتحدث عن" حوار" تم بين ابن بطوطة والسلطان أبي عنان في أعقاب زيارة الرّحالة المغربي لبلاد السودان.
قال الزّياني ـ نقلا كما يزعم عن البلوي في رحلته ـ : إن أبا عنان لما أحضر ابن بطوطة بين يديه عاتبه على عدم الاجتماع به لمّا قدم لفاس ... فقال : «يا مولانا إنما أتيت بقصد المثول بين يديك ، ولكن لما دخلت المدرسة التي شيدتها ولم أكن وقفت على مثلها فيما شاهدته في المعمور كلّه ، قلت : والله لابد لي أن أتمم عملي وأبرّ في قسمي بالوصول إلى أقاليم السودان حتى أشاهده وأقسم أنّ ليس في المعمور كلّه مثلها! فحقق الله ظني وأبرّ يميني ، هذا موجب تأخيري عن المثول بين يديك". (٢)
وها نحن نرى أولا أن ابن بطوطة في الرحلة التي بين أيدينا يصرح أنه لم يدخل إلى الكنيسة ، وإنما دخل حرمها ... وأنه لم يذكر عددا محددا لأساقفتها ... كما أن الرحلة ـ ثانيا ـ لم تتحدث عن قابس بمثل ما تحدث به التمگروتي ، كما أنها لم تتحدث إطلاقا عن حوار جرى بين السلطان أبي عنان وبين ابن بطوطة على ما زعمه الزّياني (٣) ، ونتيجة لكل
__________________
(١) ابن الخطيب : الاحاطة في أخبار غرناطة ، تحقيق : عبد الله عنان ، مكتبة الخانجي ، القاهرة. طبعة أولى ١٣٩٥ ١٩٧٥ ج ٣ ص ٢٧٣.
(٢) لا أثر إطلاقا لهذا الكلام في رحلة البلوي. مخطوط الخزانة العامة ـ الرباط رقم ٣٦٢٧ ورقم ١٢٨٨ أبو القاسم الزياني : الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برّا وبحرا ، تحقيق وتعليق : عبد الكريم الفيلالي ١٣٨٧ ـ ١٩٦٧ ، وزارة الأنباء ، لجنة إحياء التراث القومي ، ص ٥٨١ ـ ٥٨٢.
(٣) تعبير ابن بطوطة : " فوصلت إلى حضرة فاس ، يعني بعد مغادرته تازة ـ فمثلت بين يدي مولانا الأعظم ... أمير المؤمنين ... أبي عنان ... وكان بين يديه وزيره الفاضل أبو زيان بن ودرار فسألني عن الديار المصرية إذ كان وصل إليها ..."٣٣٣ ـ ٢٣٣ ,IV.